حقق عبد الإله بن كيران ما يحرص عليه دائما منذ أن تم إعفاؤه من تشكيل الحكومة. أن يقول إنه مهم ولم يرتكن إلى الهامش، وأنه موجود بالفعل والقوة، وإذا كان العثماني قد نال رئاسة الحكومة فقد احتفظ هو بوظيفة «الزعيم الروحي» و«حارس الأختام» الذي يمسك بخيوط الحزب، ومنه يمكن أن يبعثر أوراق المؤسسات بما فيها الحكومة والبرلمان. هو عضو فقط في المجلس الوطني للحزب، وحتى هذا المجلس لا يحضر أشغاله إلا نادرا. وإذا كانت الأمانة العامة تجتمع أسبوعيا لتحديد قراراتها فإنه قادر على الاجتماع في أي لحظة بفريد تيتي، قد يكون اجتماعا في شكل لايف، وقد يكون تسريبا عبر هذا العضو أو ذاك، وقد يكون رسالة خطية كتبت على عجل فوق ورق الزبدة لتحذير «الحزب المعني بالأمر». حين خرج ليتحدث عن استئناف العلاقات مع إسرائيل في الفيديو الثاني، حرص على إخبار الجميع أنه تلقى اتصالا هاتفيا من أحد مستشاري الملك يخبره مسبقا بقرار «التطبيع»، كان منتشيا بالعلم المسبق وهو يريد أن يقول إنه مازال مخاطبا من طرف أعلى مستويات الدولة، وأنه في كفة وباقي مؤسسات الحزب في كفة أخرى متساويتان في الميزان. وكأنه يريد أن يقول اليوم كما تمت استشارتي في التطبيع كان لابد أن تتم استشارتي وأخذ موافقتي في تقنين زراعة القنب الهندي. غريب حقا أمر هذا الرجل: ابن كيران الذي كان أكثر مرونة في تطبيع العلاقات مع إسرائيل، بكل تبعات ذلك داخل الحزب ووسط عائلته الأديولوجية التي تبرأت منه داخليا وخارجيا، هو نفس ابن كيران الذي يبدي تطرفا غير معهود فيه في مشروع قانون لن يكون له على كل حال نفس الوقع، الذي كان لتفهمه لقرار استئناف العلاقات مع تل أبيب. حكاية أن كل القرارات الحاسمة ينبغي أن تمر عبره قبل أن تصل باقي مؤسسات الحزب مفيدة في الفهم والاستيعاب، لكن هناك معطى آخر، وكما لو أن ابن كيران يصرخ من الألم: كيف لكم أن تجرؤوا على توجيه صدمتين أيديولوجيتين ودينيتين للحزب في توقيت متزامن: إسرائيل والقنب الهندي، ابن كيران ينظر للقضية الفلسطينية من زواية دينية، وينظر للقنب الهندي من زاوية القياس على أحكام الخمر في القرآن والتنريم الذي يطاله ولو كان فيه نفع للناس. هل يحمي آخر ما تبقى له من قلاع أيديولوجية؟ فقد تساقط الحجاب، وصار الاختلاط أمرا واقعا، والتعري أيضا والعلاقات الجنسية خارج الزواج لم تعد تشكل إحراجا للحزب وحركته الدعوة، وغدا قد يأتي الدور على الإرث وحقوق الزقلفيات... المخاوف من الهزات الأيديولوجية المقبلة واردة جدا في تفكير الرجل، لكنه يحميها بمنطق السياسة وليس بمنطق الدين، الذين يعرفون ابن كيران جيدا يقولون إنه لا يستعمل الدين إلا لتعزيز موقفه السياسي، وهو مستعد للتخلص من المرجعية الدينية متى كانت لديه فائدة سياسية ينبغي جنيها. يحتاج المرء لأن يكون فاقدا للوعي والإدراك كي يسلم بأطروحة ابن كيران التي تضمنها فيديو استله من أرشيف زمنه لما كان رئيسا للحكومة، كل المعطيات تشير إلى أن البيجيدي كان قريبا من مناقشات ومشاورات تقنين القنب الهندي منذ 2008 وبشكل أكثر كثافة منذ 2014 ،ومشروع القانون يتحدث عن استعمالات تصنيعية طبية وليس لإنتاج المخدرات وتوزيعها في السوق علانية، لكن ابن كيران يعود إلى أرشيفه النفسي، يرى في مشروع القانون غريمه السابق أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، ويرى فيه أصدقاءه، وهزيمته في تشكيل الحكومة... ابن كيران يعيش غضبا بأثر رجعي. والغضب تعبير عن الضعف، وذلك ما يظهر في رسالة ابن كيران إلى إخوانه في الأمانة العامة، أن يضع الإنسان كل تاريخه الشخصي والرمزي والسياسي داخل الحزب في كفة ومرور القانون في كفة أخرى، يعني أنه فقد كل أوراق التأثير ولم يعد بين يديه غير التلويح بالانتحار. ومن حق ابن كيران أن ينتحر سياسيا، كما أنه من حق إخوانه في الحزب أن يطبطبوا على خاطره كي لا يغضب، لكن السؤال المزعج هو التالي: هل ستضبط الدولة إيقاعها على نبضات قلب ابن كيران؟ وهل سيتوقف نشاط الحكومة والبرلمان على مشاعر ابن كيران؟ وهل ستعلق مشاريع التنمية إلى أن يرضى ابن كيران؟ ابن كيران حالة نفسية وليست موقفا سياسيا. وتدبير شؤون الدولة لا يمكن أن يتم مع حزب يتخذ مواقفه بموازين الغضب والقلق وجبر الخواطر. ففي الشأن العام نشتغل من أجل مصلحة الدولة والشعب وليس من أجل عيون وخاطر مول اللايف من الصالون والتهديد بالاستقالة في كاغيط الزبدة.. وفي المحصلة أراد ابن كيران الخروج من عزلته، لكنه زاد في عزل نفسه وحزبه.