في المجلس الوزاري ليوم الثلاثاء سادس يوليوز 2020 كان لافتا للانتباه تعيين سفير للمغرب لدى دولة الإمارات العربية المتحدة، هو إجراء ديبلوماسي يحمل دلالات أكثر من باقي تعيينات السفراء التي بلغت عشرين سفيرا. قبل هذا التعيين سمعنا الكثير من سوء الفهم، ومن البرود الديبلوماسي، وهو من الأمور الاعتيادية على كل حال في العلاقات بين الدول، وخاصة حين تكون الظرفية الدولية متقلبة لا ترسو على حال. تقرأ دول الخليج ملامح شمال إفريقيا جديدة، ويقرأ المغرب بدوره صفحة شرق أوسط وخليج لم يعودا كما كانا عليه قبل سنوات قليلة مضت، والجميع يتصفح معالم عالم مغاير، ويحرص على أن يكتب سيرته الذاتية الجديدة.. السيرة الذاتية للدول مهمة وحاسمة في العلاقات الدولية، وخصوصا حين يكون العالم قيد تشكل جديد، كل بلد يحتاج لأن يبحث عن تموقع يحمي سيادته ووحدة أراضية ويخدم مصالحه الاقتصادية، وكل بلد يحرص على أن يقول هذا ما أنا عليه، أتفق على هذه وأرفض هذه... وفي كل القراءات الجديدة، وفي مساعي كتابة سير ذاتية جديدة، من الطبيعي أن تحدث احتكاكات بين الدول، وأن تتسرب إلى علاقاتها التي كانت تعتقدها عريقة كثير من حالات سوء الفهم وحتى الجفاء... لكن، وما إن يشرع القارئون في استكمال فهم الوقائع الجديدة واستيعابها، حتى يشرعوا في تبديد حالات الرؤية الضبابية في الولادات العسيرة... قرأت دول الخليج صفحة شمال إفريقيا جديدة وشرق أوسط جديد حين عرضت على المغرب العضوية الكاملة في مجلس التعاون الخليجي سنة 2012، ولأن المغرب كان بدوره بصدد قراءة صفحات محيط إقليمي يعيد تشكيله «الربيع العربي»، اعتذر بلباقة عن العرض الخليجي، واقترح مقابله شراكة موسعة. ثم حدث تقارب كبير بيننا، وكانت الزيارات العائلية، والجولات المكوكية، وسلسلة من سياسات الدعم والتعاون المالي والاقتصادي والديبلوماسي والعسكري... لكن «الربيع العربي» لم يكن المتغير الوحيد الذي دفع إلى تغيير المضمون الكلاسيكي للتقارب مع الدول، مآلات «الربيع العربي» خلقت واقعا مؤثرا آخر، في سوريا واليمن وليبيا... ستحل القوى الإقليمية محل الشعوب الغاضبة في رسم المعادلات السياسية الأكثر تعقيدا، وعوض طموحات الشعوب في غد ديمقراطي، ستحل طموحات بوتين وترامب وأردوغان وروحاني في صناعة تحالفات ومجالات نفوذ وسيطرة في المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط الأطلسي. وليس هناك عاقل سيضع ثقته العمياء في خريطة عالمية يعاد رسمها تعسفيا وبمنطق الأقوى وتقاسم المصالح، ومرة أخرى وفي إطار عملية إعادة الرسم الدولية هذه، سيجد المغرب أن علاقاته بدول الخليج تخضع لاهتزازات سببها أن واقعا جديدا قيد التشكل دون أن نتحكم فيه وفي مفاصله ومآلاته... ولذلك كان طبيعيا أن تتوتر علاقتنا بالإمارات وبالسعودية مثلا، وأن يكون هناك برود في علاقتنا بالبيت الأبيض، وتناور معنا فرنسا وتهادننا أو تراوغنا تركيا، ومن الطبيعي أيضا أن نجد من يسعى لاستغلال هذا الواقع الطارئ في تحقيق أحلام قديمة. أن تنتزع تركيا قيادة الشرق الأوسط، وتمد رجليها في شمال إفريقيا عبر بوابة ليبيا، وبيننا أيضا من يريد أن نقطع علاقتنا بالإمارات والسعودية، ومن يريد أن نرفع إيقاع التوتر مع تركيا. غير أن قادة الدول لا يبنون القرارات التي تحدد مصير أممهم بناء على مزاج الشارع، أو أهوائه الأيديولوجية وميولاته العاطفية، العلاقات الدولية ومصلحة الأمم فيها تحتاج للصبر، لطول النفس، للواقعية والبراغماتية... والمحدد الوحيد هو مصالح الجماعة الوطنية. ولذلك نستطيع أن نفهم كيف ظل المغرب يرفض التموقع في سياسة المحاور، وبدل القطيعة يحافظ على شعرة معاوية، وبدل الشدة ينهج أسلوب الليونة، ووقت تستدعي الضرورة أن يكون صارما حازما لا يتردد في ذلك، والمحدد دائما مصلحة الجماعة الوطنية. في الاتصالات الهاتفية التي تمت بين قادة دول الخليج والعاهل المغربي إثر وعكته الصحية نفهم أن الدفء الإنساني وعراقة العلاقات الأسرية رافعتان أساسيتان لحماية العلاقات الثنائية من العواصف الظرفية، وفي تعيين سفير المغرب لدى الإمارات العربية المتحدة خلال أشغال المجلس الوزاري الأخير نفهم أيضا أن علاقة الرباط وأبو ظبي تسير نحو أن تستعيد إيقاعها المعتاد... هو التقاء بين الإخوة بعد فترات سوء فهم فرضتها ضرورات إعادة قراءة واقع عالمي جديد، وشرق أوسط جديد، وشمال إفريقيا جديدة، وحين بدأت الصورة تتضح، وشرع كل طرف في فهم الآخر الجديد عليه مقارنة بسنوات مضت.. بدأت حالات سوء الفهم تتلاشى، وبوادر التقارب تعلو الواجهة من جديد. في العلاقات الناجحة ينبغي أن يعرف كل طرف مصلحته جيدا، وأين تنتهي مصلحته وتبدأ مصلحة الآخرين، ويعلم أيضا أن تحقيق مصلحته لا يمكن أن يتم بدون التعاون مع مصالح الآخرين في عالم يفترس المنغلقين والمترددين والضعفاء... وهذه وحدها مسلمة منهجية كفيلة بأن تجعل المغرب ودول الخليج يعودون إلى الأصل: التكتل الأخوي والتاريخي والسياسي في مواجهة مشاريع التجزئة والتقسيم والهيمنة.