يكفي أن تقرأ مواقف الأحزاب من نقاش الحكومة، ومقالة عبد اللطيف وهبي، أمين عام حزب الأصالة والمعاصرة، ومناشير إدريس الأزمي، رئيس المجلس الوطني للبيجيدي، كي تقتنع بأن السياسيين دعاة سلم وحوار وتعددية، لكنهم يصيرون عنيفين نفسيا ولفظيا، مستبدين شموليين، كلما تعلق الأمر ب«غرباء» يريدون اقتحام «مملتكتهم الخاصة». ماذا سيعيب السياسي لو قال مثلا إن الحكومة التقنقراطية تجاوزتها الشروط الموضوعية لنضج الديمقراطية المغربية، وأن التقنقراط في تاريخهم كانوا ينظرون للملفات من أبراجهم العاجية وغالبا ما تسببوا في قلاقل اجتماعية، ويمكنه أيضا أن يقول ماذا سيتبقى للحكومة السياسية والديمقراطية التمثيلية بعد أن تكون الحكومة التقنقراطية قد حسمت في توجهات السياسات العامة على مدى سنتين. وبإمكان السياسي أيضا أن يرتقي في النقاش ولغته ومرجعياته، ويعود بنا إلى دافيد إيستون في مؤلفه «علم السياسة»، ويرصد لنا تلك التعارضات بين السياسي والتقنقراطي. لكن السياسي، كأي كسول مدرسي، يخترل إيستون كاملا في ترديد ببغائي ل«المدخلات» و«المخرجات». لكن أسلوب السياسي ولغته منحطان انحطاط السياسة في المغرب، ولذلك سنقرأ للأزمي يستعمل في النقاش عبارات من قبيل «ترددت كثيرا في الرد على المصابين بهذا الوباء الخطير» و«المكلفين بمهمة» ثم يصل إلى ذروة الهيجان حين يكتب «سيستمر المغرب، دائما وأبدا، بأمثالهم وتلامذتهم ومحبيهم، وببناته وأبنائه الأحرار الأوفياء البررة، جيلا بعد جيل، عصيا على أمثالكم وعلى صنائعكم ودسائسكم، كما كان دائما سواء في مواجهة الاستعمار وأزلامه، وفي عهد الاستقلال والنضال ضد المستبدين والمستفيدين، واليوم في زمن تكريس الاختيار الديمقراطي وصد مبشري النكوص ولجم منظري الالتفاف على الإرادة الشعبية، وفيا لشعاره الخالد: الله، الوطن، الملك». والانحطاط في أسلوب السياسة ولغتها هو ما يجعل عبد اللطيف وهبي يستعمل خزعبلات تعبيرية من قبيل «الرجعيين الجدد، الذين اتخذوا فرصة محاربة المغاربة للوباء بالحجر الصحي لينالوا من مكتسباتهم الديمقراطية في الحقوق وفي المؤسسات، ويبرروا بجائحة كوفيد 19 نزوعاتهم الإيديولوجية المعادية للحرية والعدل والمساواة». ومثلها عبارة «هكذا يمر «الكوفيدإيديولوجيين» وبسرعة من محاولة خنق الحريات إلى محاولة القضاء على المؤسسات المنتخبة بتبخيس قدرتها على العمل بفعالية في ظروف الأزمة». وفي بلاغ الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية سنقرأ الكذب الحلال، وعنف «الجهاد» البلاغي في البيانات، لقد كان صادما أن يلجأ البيجيدي في أعلى مستوياته إلى تضليل الرأي العام، وهو يكتب بعنف إعلان الأمانة «تثمينها إجماع الأحزاب الوطنية على ضرورة صيانة الثوابت الدستورية وضمنها الاختيار الديمقراطي، وعلى رفض بعض الدعوات التي تروم التبخيس والنيل من مكانة عمل الأحزاب السياسية ودورها الدستوري في تمثيل المواطنين والمواطنات، من خلال مؤسسات منتخبة تعكس الإرادة الحرة للمواطنين المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع». هو كذب وتضليل، وتباكي أمام الرأي العام وفق عقيدة المظلومية، لأن ما أعرفه عن المواطنين الذين انخرطوا في النقاش السياسي حول الحكومة، هو أن ليس فيهم «مبشري النكوص» ولا الذين يرومون «التبخيس والنيل من مكانة الأحزاب» ولا مصابين ب«الكوفيدإيديولوجيين». في تحليل هذا العنف في اللغة، ومثله في تصريحات قيادات حزبية أخرى من الأغلبية الحكومية ومعارضتها البرلمانية، تنتهي إلى استنتاج أولي مقلق: الطبقة السياسية التي تشارك في إدارة الدولة لا تثق في دولتها، الطبقة السياسية التي تدير شؤون الدولة تعتقد أن هذه الدولة تتآمر عليها في الحرب على الأحزاب والديمقراطية، وهذه الطبقة السياسية لا تمتلك جرأة أن تخاطب الدولة، فتصنع لها مخاطبا تفترض أنه رسول أو ساعي بريد(!). وهذه الطبقة السياسة التي تدعي الديمقراطية والدفاع عن حرية الرأي والتعبير، هي نفسها التي تصادر حق المواطنين في التفكير والتعبير عن وجهات نظرهم، هي الطبقة نفسها التي تقوم بتخوينهم وجعلهم عملاء، هي الطبقة نفسها التي تجعل صحفيين وجامعيين مجرمين متواطئين في الإجهاز على الديمقراطية والانقلاب على الدستور.. فقط لأن وجهة نظرهم تخالف أطروحة رجل السياسة. وسنقول من هذه الزاوية إن الطبقة السياسية تمارس على مخالفيها ما يسميه بيير بورديو العنف الرمزي الذي يعرفه بأنه «عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم، وهو عنف يمارس عبر الطرائق والوسائل الرمزية الخالصة. أي: عبر التواصل، وتلقين المعرفة، وعلى وجه الخصوص عبر عملية التعرف والاعتراف، أو على الحدود القصوى للمشاعر والحميميات». وبورديو نفسه أبدع فكرة أن اللاعبين في الحقل السياسي يريدونه أن يبقى منغلقا عليهم، إنه مملكتهم الخاصة، ولذلك يرفضون أن يدخلها الغرباء، أو يكونوا منافسين فيها. وبينما يتراوح تدبير الدولة في المغرب للحقل السياسي بين الانفتاح والانغلاق، تحرص الطبقة السياسية الحزبية على أن يبقى دائما مغلقا. وهي تعتبر أنها الوصية على قواعد اللعب السياسي، من يريد أن يكون عضوا في هذا النادي المغلق عليه أن يتقاسم اللغة مع أعضائه، ويتقاسم معهم أيضا التمثلات ونزعات ادعاء امتلاك الحقيقة السياسية، وبين هذا وذاك عليه أن يخضع لاختبار النوايا وما تخفيه السرائر. لقد عبر عن ذلك، إدريس لشكر، بوضوح وبعبارة مكثفة حين وصف تأسيس الأصالة والمعاصرة بأنه «وافد جديد»، والحروب التي تعرض لها هذا الوافد الجديد جاءت خصيصا من أن السياسيين لا يقبلون أن يتقاسموا مساحتهم الضيقة مع زبناء جدد، لم تتضح نواياهم بعد. وعادت فكرة الحكومة التقنقراطية لترفع من أسهم النظرية الانقسامية في الوسط الحزبي، يبدو النسيج الحزبي صراعيا منقسما على نفسه، حروبه لا تتوقف نهائيا، أو أنها تستريح لتلتقط أنفاسها وتعاود الاشتعال من جديد، لكن وكما يلاحظ ذلك جون واترب,ري في تحليله للنخبة المغربية، فإن هذه الأخيرة ومهما كانت صراعاتها حادة، فإنها تحرص على أن لا توجه الضربة القاضية لبعضها البعض. وها نحن نرى كيف تناست هذه الأحزاب كل تناقضاتها لتقف في خندق واحد يصطف فيه عزيز أخنوش إلى جانب سعد الدين العثماني ونبيل بنعبد الله إلى جانب عبد اللطيف وهبي... لقد وحدت طبقة السياسيين جهودها لمواجهة عدو خارجي اسمه الحكومة التقنقراطية، ودعاة الحكومة التقنقراطية، وهي تراهم غرباء وافدين على الحقل السياسي، ونفس التحليل الانقسامي ينطبق على البيجيدي الذي حققت له الحكومة التقنقراطية وحدة صفه التنظيمي والسياسي، وهي الوحدة التي لم يحققها بالحوار الداخلي بين المختلفين فيه. لكن أكثر ما يثير الدهشة في هذه القصة، هو أننا أمام حقل سياسي هش، متوجس، غير واثق من نفسه، مسكون بعقلية المؤامرة، كتابات أربعة مواطنين، في صحفهم وصفحاتهم على الفيسبوك، جعلت حقلا حزبيا برمته يهتز خوفا وفزعا... تلك حقا هي المشكلة حقا.