لا أعرف، وفي الحقيقة وللأمانة، لا نعرف جميعا، ما إذا كان الصحافي المغربي، الذي وجهت له صحفية فرنسية مقيمة ببلادنا تهمة الاغتصاب مذنب حقا وضالع في الاتهام الذي وجه له، أم لا. ولا نعرف، في كل حالات الاغتصاب التي نسمع بها، والتي يصل صداها الرأي العام، إن كان المتهمون قد تورطوا فعلا في التهم الموجهة لهم. كل مانعرفه هو أن الأمر بيد القضاء، وهو يحكم بناء على مايتوفر له من شهود وأدلة وتصريحات وإثباتات وما إلى ذلك، تبرئ هذا أو تدين الآخر وهكذا دواليك. هذا هو العادي الطبيعي السائر في كل بلاد الله، والمطبق على كل خلق الله، في كل محاكم عباد الله إلى أن يأتي أوان محكمة الله يوم القيامة تلك التي لا يظلم فيها أحد بطبيعة الحال. سوى أننا في المغرب نسلك سلوكا آخر غريبا بعض الشيء. عندما يعتقل شخص ما أو عندما توجه له هاته التهمة، يقول لك أصدقاؤه أو المتعاطفون معه، أو المنتمون معه إلى نفس الانتماء "مستحيل، مايديرهاش". تسألهم عن سر التأكد، وكيفية امتلاكهم لهذا اليقين المطلق يجيبونك "كنعرفو، كنعرفو". يذكرونك بالنكتة الشعبية فتبتسم وتنسى الموضوع وتواصل المسير... طبعا الرد مضحك للغاية، وإن كان الموضوع غير مرح إطلاقا، لأن الطبيعة الإنسانية هي خزان عميق وبئر لا يمكن لأحد أن يحيط به. ولا أحد يستطيع أن يجزم لك أنه يعرف قدرة شخص ما على ارتكاب هذا الفعل أو عدم ارتكابه إلا ذلك الشخص. وأحيانا حتى بعض المرضى بعاهات نفسية كثيرة عندما يكونون في حالات صحوهم الكاملة، يعتقدون أنفسهم غير قادرين على جرائم مريعة كثيرا. وعندما يواجهون بالأدلة ينهارون، ويقولوون إنهم لم يكونوا في وعيهم أو أنهم كانوا في حالة غير طبيعية أو ماشابه هذا الكلام... سمعناها على لسان أصدقاء مغني وجهت له التهمة، حين قال لنا أهله "مايديرهاش". وسمعناها على لسان أصدقاء قيادي أصولي حين قال لنا إخوانه « والله آسيدي مايديرها، مسكين ديما فالجامع» وسمعناها على لسان أصدقاء صحافي معروف في البلد حين قال لنا مجايلوه: « نو واي، مايمكنش إنه يتعاطى أقراص مرض السكري لذلك مستحيل ». بل سمعناها ذات يوم بعيدة عن ميادين الجنس اللطيفة والساخنة، قريبة من ميادين القتل الدموية والمجرمة، حين قال لنا أحباء وأصدقاء وأنصار متهم بارتكاب جريمة نزع نفس دون وجه حق « لن نسلمكم أخانا » والسلام... ثم سمعناها مرارا وتكرارا على لسان أحباء مشاهير آخرين كثر، قال لنا من يعرفونهم أو من يقربون إليهم "مايديروهاش"، وسنسمعها كل مرة انتصر فيها المنطق القبلي فينا، على المنطق الإنساني ذلك الذي يعتبر أن من أذنب عليه أن يستحق العقاب والسلام. هذه ليست الفرية الواحدة أو الوحيدة التي يتسبب لنا فيها المنطق القبي المعيب. هناك فرية أخرى أسوأ بكثير، هي فرية البحث عن مشاجب ثانية غير التهمة الأصلية، لكي نعلق عليها متابعة أو اتهام شخص ما بفعل من هاته الأفعال. يلقى القبض على المغني فيقول لك مقربوه "إنهم منافسوه من أعداء النجاح يريدون الإيقاع به". يلقى القبض على الصحافي فيقول لك المنافحون عنه "إنه قلمه المزعج الجريء" أزعج خصومه فذهبوا للبث عما فعله قلمه الآخر غير الجريء نهائيا. يلقى القبض على عضو الحزب الفلاني فيقال لك "إنها ضريبة النضال ورفع العقيرة بالصراخ ضد الظلم » وما إلى ذلك من الشعارات الفارغة التي تريد فقط قلب الحقيقة وتوجيهها في اتجاه آخر غير ذلك الذي ينبغي أن تسير فيه . لدينا مشكل حقيقي وفعلي، قوامه أننا نقول في العلن عكس مانفعله في السر. ومؤخرا فقط قال ثمانون في المائة من الشباب المغربي الذين مسهم استطلاع عن الجنس الرضائي خارج إطار الزواج، إنهم يرفضون هذا الأمر، وأنهم لا يتخيلون أنفسهم يقومون به. من سيسمع هذا الكلام ومن سيصدقه أصلا سيرتاح على أخلاق شبابنا الفاضلة، وسيقول إنه من الجيد أنهم يصبرون وأنهن يصبرن على الحرمان الجنسي إلى حين الزواج، وأنهم يبحثون وأنهن يبحثن عن طرق تعويضية أخرى مقبولة بشكل أو بآخر، مثل تلك التي تحدث عنها علامة العلماء يوسف القرضاوي في كتابه الشهير ذائع الصيت بين شباب « الحركة الإسلامية »: "الحلال والحرام في الإسلام »، حين أتاح للشباب الذكور سلخ الجلد إلى حين ميسرة، و أتاح للشابات الإناث العزف المنفرد على الغيتار، إلى أن يأتي الفارس على جواده، ويطير بهن إلى بيت العدل. طبعا القرضاوي من حقه أن يتيح مايشاء، لأن لديه اتحادا بأكمله للعلماء يأتمرون بأوامره، ويوافقونه على المواضيع التي تشغل باله وعقله، ويتيحون له التزوج بالصغيرات اللائي ولدن يوم وصل هو ثمانينياته من العمر، لكن الواقع لديه انشغالاته الأخرى، وأحكامه الفعلية والحقيقية الثانية، التي يطبقها الناس يوميا في الشارع بغض النظر عن الشعارات... نعم، نحن قوم دأبنا منذ قديم القديم على قول أمور كثيرة لا نطبقها، ولا نؤمن بها، ولا نعتقد في قرارة أنفسنا أننا قادرون يوما على تنفيذها، لكننا نقولها. نرتكبها كلمات في الهواء الطلق ونمضي... نفعل ذلك مراعاة لخاطر البعض، واحتراما لحياء البعض الآخر، وتمثيلا على البعض الثالث، ومداهنة ونفاقا لبعض رابع، ونفعله أساسا خوفا من أن نقول لأنفسنا حقائقنا الأربعة، وهروبا وفرارا من تلك اللحظة البسيطة، لكن القاتلة، التي لا يستطيعها إلا أهل الشجاعة الحقيقية: لحظة الوقوف بكل هدوء عاريا وعارية أمام المرآة، والتحديق مليا والقبول بما تراه دون زيادة أو نقصان... تلك اللحظة تذكرنا أننا لسنا ملائكة، وأننا نخطئ ونصيب. وأننا حين الخطأ نستغفر ربنا ونتوب أو على الأقل نعلن الرغبة في التوبة، وأننا حين الصواب نفرج ونواصل المسير، مثل كل الآدميين الخطائين الذين قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إننا جميعا ننتمى إلى طائفتهم، وأن أفضلنا فيهم هم التوابون. سوى أن البعض منا لا يريد أن يكون آدميا، هو يريد تمثيل دور الملاك مع أن الشيطان يختفي في تفاصيل تمثيله هاته، وتلك هي الكارثة الحقيقية...