قبل أن تولد شركات التواصل ذات الملاعق الذهبية في الأفواه التي يقال لأغلبية أصحابها « دير شي آجونس وراه غادي نتعاونو معاك »، وقبل أن يصبح الماركوتينغ سياسيا كان أم إعلاميا أم ثقافيا فنا قائما بذاته يدرس في المعاهد والجامعات وله خبراء يطوفون العالم بأسره، بعضهم عن علم حقيقي وبعضهم عن دجل فعلي، كان ولازال وسيظل لدينا في مأثورنا الديني وفي قرآننا الكريم وبالتحديد في سورة فصلت الآيتان 34_ 35 كلام واضح يغنينا عن كل الدروس حين قال رب العزة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم « إدفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» الآيتان معناهما عظيم للغاية، وهما خارج السياق الذي نزلتا فيه يصلحان شعارا لكل مدارس التواصل في العالم وليس درسا وحدا يلقى على المسامع فيفهمه البعض، ولا يستوعب منه البعض الثاني إلا الشيء القليل. وهاته الأيام وقد تحول الجميع إلى خبير تواصل يعطي النقط لمن يعرف كيفية الحديث مع الناس ولمن لا يتقن إلا إعطاء اللكمات لنفسه بخرجاته غير المحسوبة، لامفر من بعض كلام عن الموضوع خصوصا وأنه علم حقيقي قائم على أساس وليس مجرد « زعامة » نرتكبها على عجل ونتمنى من الله بعد ذلك أنه « يدير تاويل الخير » مثلما يقع في الوطن الأمين خذ لك مثلا حكاية المقاطعة هاته وزلة الوزير بوسعيد الأولى حين ندت عنه كلمة المداويخ. يومها اعتقد الوزير أن كلمة استعملها قبله عبد الإله ابن كيران في سياق مغاير تماما وهو يخاطب « كتائب » حزبه الفيسبوكية ستمر مرور الكرام. لم يضع بوسعيد في الحسبان أن ابن كيران - وهو وحش تواصل حقيقي عن تلقائية وليس عن علم - قالها وهو يعرف لمن يوجهها ويعرف معنى توجيهها ويعرف المراد من هذا التوجيه. كانت كلمة المداويخ في تلك اللحظة أمرا محببا من « أب » لأبنائه » تطلب منهم الصبر ريثما تمر الأمور لصالح الحزب لئلا تفسد الكعكة الانتخابية، التي كان ابن كيران يشتم رائحة احتراقها عن بعد، فيما كان شبابه في الكتائب الفيسبوكية متسرعين لا يعرفون إلا النزر القليل من المعلومة، لذلك كانوا محتدين، فأتاهم « التوجيه » من حيث لا يحتسبون من خلال تلك الكلمة، فارتاحت الجموع وقالت « لزعيمها » : هيت لك. بوسعيد من جهته لم يخاطب أنصارا حزبيين، هو تحدث مع جزء من الشعب لذلك رأى العديدون في قولته زلة سياسية كبرى وخطأ جسيما لم يكن له أن يتورط فيه. الأمر ذاته ينطبق على مدير شركة الحليب الذي أراد أن يدافع عن المنتوج الوطني، وهذا حقه لكنه ارتكب كلمة « الخيانة » في غير محلها فأدى كلامه إلى العكس من المراد منه، وظهر فيما بعد في زلة تواصلية جديدة معتذرا بشكل مهين في شريط فيديو غير مدروس هو الآخر، بل كان رد فعل متسرع على الخسائر الجسيمة التي خلفها تصريح معرض الفلاح بمكناس للمدير المذكور. ثم انضاف يوم الخميس إلى الجموع الوزير الخلفي، وهو يتحدث عن موضوع ثان لاعلاقة له بالموضوع الذي يشغل الناس، إذ استل نقاش الأخبار الزائفة ووضعه في غير موضعه، فكانت النتيجة أن فهمت الجموع من كلامه أنه يهدد من يقاطعون الحليب والماء والمحروقات بالسجن فكانت طامة تواصلية كبرى إضافية إلى الموضوع ككل.. في الحالات كلها، وهي تصدر عن غير علم في موضوع يلزمه علم كثير، نكون مضطرين للعودة إلى تلك الآية الكريمة بكل براحها وكل شساعتها لكي نجد فيها الحل وطريقة التواصل الأفضل: الدفع بالتي هي أحسن ما الذي كان سيخسره بوسعيد لو دعا أول مرة في البرلمان جموع المقاطعين إلى حديث مباشر عن الموضوع، ولو قال « الحكومة أنصتت إليكم، وسمعتكم ورسالتكم وصلت وسنرى ما الذي يمكن القيام به ؟ ». ماالذي كان سيخسره مدير شركةالحليب لو قال في معرض الفلاحة بمكناس « ننتهز فرصة اجتماع مهنيي القطاع هنا لكي ننقل النقاش من الفيسبوك إلى أرض الواقع ولكي نحاور المنتجين الصغار أولا ثم كبار منتجي الحليب عن سومة هذا الأخير وعن ظروف بيعه وترويجه واستهلاكه؟ » ما الذي كان سيخسره الوزير الخلفي يوم الخميس لو لجأ إلى أسلوب آخر غير أسلوب « دفاتر التحملات » الذي جربناه معه يوم كان وزيرا للقطاع وأسلوب التهديد في زمن لم يعد أحد يخشى تهديدا من أحد، وقال « الحكومة سمعت شكاوى الناس وستتحرك »؟ الثلاثة لم يكونوا ليخسروا شيئا. الثلاثة كانوا سيربحون الشيء الكثير، وكانوا سيمنحون البلد فرصة تضييع أيام إضافية أخرى من النقار ومن المزايدات ومن التحدي بين من سيرفض، ومن سيقبل، ومن سيقف في الوسط متأملا كل هذا الدمار الحاصل بسبب الهواية والارتجال في مجال لم يعد يتقبل هواية ولا ارتجالا. من سبقونا في مجال السياسة في العالم اليوم يعرفون أن التواصل هو أساس الحكاية، بل ربما أصبح أهم من ممارسة السياسة. ومن يرون اليوم ترامب مقتعدا تغريداته في تويتر يوميا يفهمون ذلك. من يرون ماكرون مصرا على مناقشة المواضيع مع الغاضبين منه كلما حل في مدينة ما يفهمون ذلك. من يستوعبون أن العالم تحول من واقعيته التي كانت تفرض أشياء إلي افتراضية أصبحت تفرض أشياء أخرى يفهمون ذلك. من يجلسون على الأرائك مكتفين بما يقوله لهم الحواريون والأنصار لن يستوعبوا متغيرات الوقت، ولن يستطيعوا كل مرة خرجوا فيها لكي يدلوا بتصريح ما إلا أن « يطبزوا لها العين طبزا » بدارجة المغاربة البسيطة والعميقة، تلم التي لاغنى عنها في حكاية التواصل اليوم، وهذا موضوع آخر عن اللغة الأم قد نصل يوما من الأيام إلى مستوى مناقشته بالعقل عوض مناقشته بجهالتنا التي وأدته في مهده وحكمت عليه هو الآخر بالانتظار. تواصلوا يرحمكم الله، أو إذهبوا لتتعلموا التواصل قبل أن تخرجوا على الناس بتصريحات « تخرج عليكم » في نهاية المطاف