لم تقدم مقالة السيد إلياس العماري تحت عنوان «من يملك مفاتيح الأزمة» أي قيمة مضافة لما هو موجود من خطابات في ساحة النقاش العمومي. وعلى العكس من ذلك، سقطت في منطق التهويل وهي تحاول تكريس انطباع شخصي لدى الكاتب مفاده أن «الوطن يعيش أزمة»، وهو مثل «سفينة يتهدد ركابها الغرق». ومن الطبيعي أن تقود مثل هذه القراءة، التي خضعت لكثير من تشويش إحباطات الذات على القراءة المتأنية للواقع، إلى خلاصات لا تقل تهويلا عن مقدماتها، ومن أمثلة ذلك أن يحاول السيد إلياس العماري، وقد تسلح بكل السواد المتاح والتشاؤم الممكن، إقناعنا بأن هناك حاجة ل«إنقاذ الوطن»، والمثير للدهشة في مقالة السيد إلياس العماري هو احتفاؤه الحماسي بما يريد أن يصل إليه من أحكام قطعية، لكنه وفي المقابل يهمل بشكل واضح أن يجتهد في تقديم حيثيات قوية لخطاب «الأزمة» و«الغرق»، حتى أن المقالة تبدو في بنائها عبارة عن شتات غير منسجم في أجزاءه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وحتى التاريخية. وتعطي المقالة الانطباع بأنها كتبت على عجل ودون تركيز وتمحيص دقيقين للأفكار والمواقف، وبسبب ذلك أساء السيد إلياس العماري إلى التنظيم السياسي الذي استقال من قيادته، وذلك حين تعمد أن يقحم في عناصر التحليل عبارة «الأحزاب الأخرى التي تم تكوينها بطرق مختلفة لأداء وظائف آنية أو مرحلية أو استراتيجية». وفي النتيجة أضفى كامل الشرعية والمشروعية على ما يستند إليه خصوم «البام» في نقدهم لأسباب وجود حزبه. وزاد من تأكيد تأجيج مشاعر الالتباس التي توجد لدى البعض بخصوص علاقة الدولة بالحقل الحزبي. وقد تكون فكرة «الوظائف الآنية والمرحلية» هذه هي ما جعل السيد إلياس العماري يسقط في ادعاء أن هناك غيابا «لمشروع واضح» لدى الفاعلين السياسيين، وهو أمر غير صحيح بالمرة، بل ويسقط إلياس في تناقض مريع مع ما سبق له أن عبر عنه خلال المؤتمر الوطني الأخير لحزبه حين قال إن الحزب تبنى مشروعا مجتمعيا يضع «البام» في موقع «وسط اليسار». ومن البديهي أن منطلقا هشا في التحليل مثل هذا الذي سرده إلياس، ينزع كل جدية عن دعوته إلى نقاش وطني حول مشروع بديل. وتزداد دعوته هشاشة لما يتجاهل أنه قبل ست سنوات فقط توافق المغاربة حول مشروع سياسي أطره دستور 2011، وقبل 14 سنة، وبالضبط سنة 2004 توافقوا أيضا حول مشروع جديد لتدبير الحقل الديني، ومنذ سنوات والمغرب الرسمي يطرح سؤال تجديد النموذج الاقتصادي الوطني. وأزعم أن الإشكال لم يكن في هذه المرجعيات، بل في عجز نخبتنا السياسية عن متابعتها في الأجرأة والتنفيذ، وربما، وفي هذه النقطة بالذات كان إلياس صادقا حين كتب قائلا: «أضحى المشهد الحزبي ببلادنا أشبه بركح للتمثيل، فعوض التنافس بين البرامج والتصورات، تحول أغلب الفاعلين السياسيين إلى ذوات تتصارع على احتلال المواقع وتقلد المناصب». وقد حدث في المغرب اتفاق غير مسبوق حول قواعد اللعب السياسي، وتم صهر الخلافات بين الفاعلين السياسيين الرئيسين في مقولات «المغرب الحداثي الديمقراطي» و«الاعتزاز بروافد الهوية الوطنية في أبعادها الدينية والعرقية»، ثم انطلقنا مسلحين بذاك الرصيد وتلك الوافقات التي أسميناها بالاستثناء المغربي نحو عمقنا الإفريقي، وشرعنا نعيد قراءة تموقعنا في العالم، ونعبر عن طموح ولوج نادي الدول الصاعدة. ويصعب على التحليل الذي يستحضر هذه التوافقات الكبرى، ومهما انطلق من ظرفيات متوترة وسياقات محتقنة، أن يزعم أن المغرب سفينة على وشك الغرق، وأن البعض منا مكلف بمهمة الإنقاذ الوطني، كما لو أننا في بلد لا توجد فيه مؤسسات للتمثيل الانتخابي، ويعيش بدون نظام حكم ملكي توافقنا تاريخيا على أن نسند إليه المهمة الكبرى لحفظ أمن الوطن واستقراره وديمومته. لقد كان واجبا على التحليل أن ينطلق، في واحدة من مقدماته، من مسلمة أن وظيفة الأحزاب هي تقديم عروض سياسية وتدبيرية لتولي القيادة الحكومية وتأطير المواطنين في مجالاتهم الترابية، وحين يفشل البعض منها في ذلك يجدد أدواته وقيادته، وفي هذا الباب بالضبط أرى أن قرار السيد إلياس العماري تقديم استقالته من منصبه كأمين عام، كان قرارا غير مجانب للصواب.