في عز حرارة الصيف، وفي قمة الاستمتاع بالشاطئ، لا يجدون "متسعا" لهم بين المصطافين...!! لم يحل بينهم وبينه طول مسافة أو افتقار إلى وسائل نقل.. لأنهم قريبون منهم سكنا ووجودا، بعيدون عن مياهه والغوص فيها واقعا، رغم أن أغلبهم يخوض المسافات الطويلة على رماله جيئة وذهابا... هم شباب في مقتبل العمر، ومنهم أطفال في عمر الزهور، وبينهم كهول وحتى شيوخ، ينتظرون فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، ليس شوقا في مد الأجساد على الرمال، أو غطس الأجساد في المياه الباردة بحثا عن انتعاشة تخفف من وطأة درجات الحرارة في هذه الأيام القائظة.. وإنما انتظارا لزبائن يقدمون لهم خدمات متنوعة، تنطلق من كراء الكراسي والواقيات الشمسية، وملء براريد الشاي، وحتى بيع أدوات السباحة البلاستيكية والحلويات "المغمسة" في مسحوق السكر والمحشوة بالمربى، المعروفة باسم "البيني" أو المثلجات التي تنوء بحمل صناديقها الأكتاف في عز الحر... "البِينِي.. شُو".. مصدر رزق على لوحة مستطيلة صف «أحمد» العشرات من قطع حلوى "البيني"، أو "اسفنج النصارى"، وفي جزء من اللوحة المحاطة بحواشي خشبية، وضع قنينة المربى وآنية مسحوق السكر، وبانتهائه من ترتيب سلعته، وضعها على رأسه ليرفع صوته بالنداء: "بيني شو.. بيني سخون.. حلويات"... لازمة دأب على تكرارها كلما وطأت قدماه رمال شاطئ «واد المرزك» الذي لا يبعد عن مدينة الدارالبيضاء إلا بحوالي 15 كلمترا... لا يرفض «أحمد» الاستجمام، والاسترخاء على رمال الشاطئ، ولكنه لا يجد السبيل إليه، لأن جزءا كبيرامن أيام العطلة يعني بالنسبة إليه فرصة ضرورية للكسب، وتوفير بعض الأموال، التي تساعده في اقتناء ما يريده عند انقضاء الصيف، وحلول أوان الدراسة... يقطن «أحمد» أحد الدواوير القليلة المتبقية ضمن النفوذ الترابي القريب من شاطئ واد امرزك التابع لبلدية دار بوعزة باقليم النواصر.. فهو "ابن للبحر"، فتح عينيه منذ سنوات عمره الأولى عليه، فوجد والديه يعتمدان عليه في كسب بعض الأموال بمناسبة العطلة الصيفية.. وعلى نهجهم سار.. يبلغ «أحمد» - الآن - من العمر حوالي ثلاثة وعشرين عاما، ويتابع دراسته بكلية الحقوق، طريق الجديدة، وكلما حل فصل الصيف يكون الشاطئ مرتعا له، يأخذه جيئة وذهابا، من أجل البحث عن زبائن لحلوياته "الساخنة"، كما يروج لها، بصوت مرفوع لاجتذاب من يشتريها منه. لكن، ليست وحدها حلويات «أحمد» الساخنة، بل إن جسده الذي استحال لونه إلى السواد، جراء التعرض الطويل، كل يوم ولساعات لحرارة الشمس، يغدو ساخنا، بعد أن صرح للجريدة أنه لا يكاد يمر الصيف، كل عام،دون أن يصاب بنزلة ارتفاع في درجة حرارة جسده، تجعله لا يغادر منزل أسرته لأيام.. ورغم ذلك وكلما تماثل للشفاء يعود لممارسة تجارته بحثا عما تصفه أسرته ب "البحث عن طرف د الخبز". مثلجات للمصطافين ولفحات شمس للبائعين..! ليس «أحمد» الشاب الذي يقطن دار بوعزة، وحده الذين يتخذ من الشاطئ مصدر رزق في فصل الصيف، فغيره كثيرون يسيرون على نهجه، ويقتفون أثره.. بعضهم يتخذ من التجارة الصيفية حرفة له ينتقل إليها بعض ركود التجارة ب "البر" ليكون البحر وجهة له، والبعض الآخر يتخذ منها حرفة موسمية، يتدبر منها مصاريف باقي فصول السنة.. منهم شباب، وبينهم يافعون وأطفال كذلك، يساعدون أسرهم ويبحثون لأنفسهم عن مداخيل تنعش جيوبهم، لأنهم - كما يصفون أنفسهم - ليسوا "كليميني"، أو ممن ولدوا وفي أفواههم "ملاعق من ذهب". ف «خالد» يرفض أن يمد يديه إلى والديه لينال مصروفه، بعد أن اعتاد أن "يتحرك" كما يقول في كل عطلة صيفية... لا يقطن «خالد» مسكنا قرب الشاطئ، وإنما يقطع العشرات من الكلمترات ليصل إليه، أحيانا راكبا على متن سيارة للأجرة، وأخرى يقطع المسافة على الأقدام، لتوفير ثمن الرحلة، واستغلاله في اقتناء وجبة الغذاء.. وحالما يصل «خالد» إلى الشاطئ، يلجأ إلى محل بيع المثلجات، ليجد صندوق المثلجات الصغير في انتظاره.. يعد قطعه، و«يتوكل على الله» قاصدا رمال شاطئ (طماريس 1)»، لتقريب المثلجات المنعشة من المصطافين، وتعريض جسده للفحات الشمس المتوالية لساعات... يقول «خالد» إن عائداته اليومية لا تتعدى في أحسن الأحوال 50 درهما، ورغم ذلك فإنه لا يتوانى في إبداء نوع من الرضى والقبول، بما يمارسه، لأنه يبعده عن كثير من الموبقات، ويقربه من «التدرب على تحمل العناء من أجل الكسب دون تواكل، أو اتكال على أسرته»، التي يقول إنها «تنتظر منه بدورها المساعدة». لا يبدي «خالد» ولا حتى «أحمد» أي تذمرأو استياء من حرمان نفسيهما من التمتع بأيام العطلة، لأنهما يجدان فيها الفرصة المواتية لتدبر مصاريفهما، فكل ما يمنيان به النفس أن يكون «المستقبل أحسن من الحاضر»، بعد إتمام الدراسة وإيجاد العمل القار الذي يحلمان به. وبعكس «خالد» و «أحمد»، فإن بعض الكهول والشيوخ ممن احترفوا التجارة في الشواطئ لعقود، واتخذوها فضاءات للكسب، غالبا ما يرددون أن "الله غالب"، مصرحين: "ما كرهناش نتبحروا ونتشمسوا ونسافروا بحال عباد الله"، ولكن "الخبز صعيب"...