محمد بوستة الراحل عن عالمنا في ساعة متأخرة من ليل الجمعة الماضية، لم يكن رجل سياسة بالمعنى العادي للكلمة. فقد اختزل في مسار حياته الطويلة كل عناوين النضال الحقيقي، الممتزج بالروح الوطنية غير القابلة للاستمالة والمماراة. من النضال ضد المستعمر في سنوات الشباب الأولى، إلى معارك بناء الدولة الحديثة على أسس الحق والقانون والمشروعية، استمر بوستة ثابتا على المبادئ، غير منافح في تيارات التقلبات السياسة، ومداخلها ومخارجها المتعددة. وحين كان قادة حزب الاستقلال التاريخيين، يعتبرون أن حزب الاستقلال هو كل شيء في المغرب، وأن المؤسسات المؤسسة للهوية المغربية يمكنها أن تأتي فيما بعد، أصر الراحل، على أن الملكية هي الأساس، وأن الأحزاب السياسية، مهما ثقلت موازينها، ليست سوى تنظيمات، يحق لها أن تدافع على مصالحها ومواقفها وأوضاعها الاعتبارية، دون مساس بمقدسات الوطن . محمد بوستة النابع من تربة الأرض المغربية، والمحصن بتاريخ النضال ضد المستعمر منذ سنواته الأولى، والمتمرن على وفي الحياة السياسية في استجلاء أدق تفاصيل العلاقة بين الأحزاب والسلطة في مغرب مابعد الاستقلال، قدم مواقف سياسية تاريخية ستظل شاهدة على صدق ارتباطه بالوطن، وبعد نظره في مقاربة الراهن السياسي. لن ينسى المغاربة، كلمته الأشهر في قبة البرلمان، منتقدا الحضور المتزايد لادريس البصري، وزير الداخلية الأسبق، في وقت كان فيه السياسيون المغاربة بمختلف تلاوينهم، يطوون فيه لسانهم داخل أفواههم أكثر من مرة، قبل أن ينبسوا ببنت شفة حول الذراع اليمنى للملك الراحل الحسن الثاني. موقف سياسيي ثابت دفعه إلى رفض ترأس الحكومة احتجاحا على ورود اسم ادريس البصري في لائحة الأسماء المرشحة لتولي مناصب وزارية. وإذا كان المغاربة في زمن مضى، قد وضعوا تصورا خاصا حول استفراد حزب الاستقلال بالمناصب الحكومية وتأسيسه لهذا المبدأ في الحياة السياسية المغربية، فإن الراحل هدم هذا التصور من خلال هذه العلاقة المتشبتة بالموقف ، لكن ‘‘ المرنة والمتسامحة ‘‘ مع الكراسي والحقائب الوزارية. سيذكر دائما للراحل رفضه طلبا للملك الراحل الحسن الثاني بقيادة الحكومة المغربية سنة 1992، بسبب اشتراط الملك الراحل وجود وزير الداخلية القوي الراحل إدريس البصري، في هذه الحكومة، وهو ما كان سبباً في "إجهاض" أول حكومة تقودها المعارضة المغربية، فيما يسمى في المغرب ب"التناوب الديمقراطي"، قبل أن يتحقق هذا الأمر مع الزعيم الاشتراكي، عبد الرحمن اليوسفي، الذي قاد أول "حكومة تناوب" عام 1998، والتي استمرت إلى غاية 2002 . حسب روايته لبرنامج الشاهد على القناة الأولى، أكد محمد بوستة أنه ازداد في قاعة بنايت بدرب بوستة في مراكش في 11 غشت من العام 1922 ، من والده أحمد بن عمر بوستة ووالدته فاطنة بنسليمان. تلقى دراسته الأولى في المسيد بمراكش، وحفظ القرآن عن سن مبكرة. درس المرحلة الابتدائية والثانوية في مراكش، وأكمل دراسته الجامعية في جامعة السوربون الفرنسية في تخصص القانون والفلسفة. فتح عام 1950 مكتبا للمحاماة في الدارالبيضاء. وأصبح في ما بعد نقيبا للمحامين، وتخرج في مكتبه محامون مشهورون، منهم رئيس الوزراء السابق عباس الفاسي . انخرط مبكرا في العمل الوطني وهو تلميذ، وكان من بين المؤسسين لحزب الاستقلال، وأصبح عضو المكتب التنفيذي للحزب عام 1963 . برز اسمه للمرة الأولى ضمن التشكيلة الحكومية لأحمد بلفريج عام 1958 كوكيل في الشؤون الخارجية. وشارك كمحامي في أغلب المحاكمات السياسية التي عرفتها البلاد أثناء فترات الصراع بين القصر والمعارضة. شغل مناصب مختلفة منذ فجر الاستقلال، فعمل وكيلا في الشؤون الخارجية في حكومة أحمد بلفريج عام 1958، ووزيرا للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري عام 1961 . قبل أن يعود لتسلم حقيبة وزارة الخارجية بين عامي 1977 و 1983، وعينه الملك محمد السادس رئيسا للجنة الملكية لإصلاح مدونة الأسرة . وهي المهمة التي اعتبرها الراحل من أدق التكليفات الرسمية التي أداها في مشواره السياسي الكبير، لحساسية النقاش حول دور اللجنة الاستشارية الملكية في مراجعة قوانين الأحوالة الشخصية، والخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية، التي ستتتطور فيما بعد إلى ‘‘ مدونة الأسرة ‘‘. ثم استدعاه الملك الراحل الحسن الثاني عندما قرر فتح الباب لتجربة التناوب، وعرض عليه تشكيل الحكومة لكنه رفض بسبب تدخل إدريس البصري في ما أسماه آنذاك ب "إفساد الحياة السياسية وتزوير الانتخابات"، وانتقد تسلط وزارة الداخلية وتحولها إلى "أم الوزارات‘‘. حظي الراحل بتكريمات عديدة، محلية وعربية ودولية، تظل أهمها توشيحه بوسام العرش من العاهل المغربي الملك محمد السادس العام 2003، وحصوله في 16 فبراير 2012 على وسام ‘‘ نجمة القدس ‘‘ من السلطة الفلسطينية، تقديرا لدوره في نصر القضية الفلسطينية، وسعيه الدائم لإحلام السلام في الشرق الأوسط . كسياسي محنك ورجل حوار وبعد نظر، نجح المناضل الراحل في الدفع بالحياة السياسية نحو الخروج من أزمات كبرى، سواء من موقعه في الحزب أو كرجل ديبلوماسية من الطراز الرفيع. فقد قاد محمد بوستة مشاورات مع حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وحزب التقدم والاشتراكية، وحزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، تمخض عنها تشكيل الكتلة الديمقراطية التي اشتهرت بمواجهة أحزاب توصف بالإدارية، وقد شاركت ثلاثة أحزاب من الكتلة في حكومة التناوب لعام 1998. كما أنهى الصراع داخل الحزب بين قيادته وتيار "لا هوادة"، فبعدما كان هذا التيار ينتقد بشكل كبير قيادة الحزب منذ انتخاب حميد شباط أمينا عاما، وينظم ندوات يطلق فيها تصريحات نارية ضد شباط، استطاع بوستة إقناع الطرفين بالمصالحة والعمل على المستقبل. في وقت سابق، قاد محمد بوستة، خلال توليه حقيبة وزارة الخارجية بدءًا من عام 1977، مفاوضات مع نظيره الجزائري أحمد طالب الإبراهيمي لأجل إيجاد حل لنزاع الصحراء، وكان لافتا أن البلدين قررا تمكين السياسيين من قيادة المفاوضات بدل العسكريين، وساهمت جهود بوستة، ووساطة الملك السعودي فهد بن عبد العزيز، في تنظيم قمة بين الجزائر والمغرب في قرية العقيد لطفي على حدود البلدين. ظل الأمين العام الأسبق لحزب الاستقلال قريبا من الأحداث السياسية في البلاد رغم ابتعاده عن المشهد، كفاعل مباشر . واكتفى بالتدخل في مواقف تاريخية معينة من تاريخ الحزب أو البلاد عندما تستدعي الضرورة التعقل والحكمة. خلال ذكرى الاحتفال بالذكرى الستينية لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 2004، دعا كافة الشباب المغربي لاستحضار روح الوثيقة، في التشبث بالوحدة الترابية للبلاد، ولم لا استكمال تحرير باقي الأجزاء المغتصبة من التراب الوطني. كما دعى فيما بعد إلى وقف جميع أشكال التفاوض من جبهة البوليساريو التي تتبنى خيار وهم الجمهورية الانفصال، وشدد على ضرورة وحتمية تنزيل مقترح الحكم الذاتي على الأرض في الأقاليم الجنوبية للمغرب . وسيظل آخر نشاط سياسي للزعيم الراحل محمد بوستة عالقا في أذهان الاستقلاليين والمغاربة، بعد ترأسه آخر السنة الماضية لاجتماع ضم أهم الأسماء التاريخية والحالية لحزب الميزان، وترأس خلاله الدعوة إلى استقالة الأمين العالم الحالي حميد شباط، على إثر التصريحات التي أطلقها في اجتماع نقابي والتي ادعى فيها ‘‘ أن موريتانيا هي أصلا أرض مغربية ‘‘ . وتضمن البيان النهائي للاجتماع الذي وقعه محمد بوستة وعباس الفاسي وآخرون جملة ‘‘ نعلن ونجزم أن السيد حميد شباط أثبت أنه غير مؤهل ولا قادر على مواصلة تحمل مسؤولية الأمانة العامة لحزب الاستقلال ‘‘ . ولأن السمات الشخصية تميز الإنسان أكثر من المناصب، فقد كان لعلاقاته الإنسانية الأثر المديد عن محيطه الأقرب وعلى كل من تعرف عليه. ثقافته الواسعة وتجذر معارفه في القانون والحريات و الحقوق، لم تكن عناوين عريضة ميزت مسيرة حياته فحسب، بل تجسدت في أفعاله المباشرة. قبيل رحيله، قرر محمد بوستة توزيع كل ممتلكاته وثروته بالتساوي على أبنائه، للذكور مثل حظ الإناث، ليكون بذلك قد وضع مفهوم المساواة في بعده الإنساني، في أول المراتب وأعلاها. كان محبا للحياة، مصرا على التوازن في إتيانها، عبر إيمان عميق في زوالها القريب، مهما تحصل للإنسان من مكاسب ونجاحات. القريبون من سي محمد، كانوا يعرفون كم أصر الراحل على المزاح والنكتة و ‘‘ التقاشب المراكشية ‘‘ في ساعات الصفا الحميمية. ولأن ‘‘ المرء أصل ما يفعل ‘‘ كما قالت العرب، أوصى الراحل محمد بوستة، خلال سنواته الأخيرة، العائلة الصغيرة والأقرباء بأن يدفن هناك في مراكش، مكان المولد والمحتد، رغبة في استكمال دورة حياة، عاشها بكل البذخ الإنساني الممكن، سواء في سنوات النضال الشبابي أو في مناصب المسؤولية، أو من موقع الحكيم المتزن في آنائها الأخيرة. رحم الله محمد بوستة .