في الحوار التالي يتطرق المفكر المغربي سعيد ناشيد لموضوع الإلحاد باعتباره مفهوما إشكاليا بالغ التعقيد، تتدخل فيه عوامل ذاتية وأخرى موضوعية، كما يتناول الحوار ظاهرة لجوء الشباب المغربي والعربي إلى مواقع التواصل الاجتماعي للمجاهرة بمواقفهم اتجاه عدد من القضايا الدينية. في البداية كيف تفسرون النزعة الإلحادية لدى عدد من الشباب خلال الآونة الأخيرة؟ الإلحاد مفهوم إشكالي معقّد، مثله مثل مفهوم الإيمان. فإن كان مقصود الإلحاد إنكار فكرة الله مثلا، ستصبح البوذية ديانية ملحدة، وهذه مفارقة. وإن كان مقصود الإلحاد إنكار البعث الأخروي على سبيل المثال، ستصبح اليهودية ديانة ملحدة، وهذه مفارقة أيضاً. إذن، ما هي الخاصية الأساسية التي تميز الإلحاد عن أي فكرة أخرى؟ تحديداً، أين ينتهي الإيمان ويبدأ الإلحاد؟ الأشد تعقيدا من كل هذا أن الإيمان كما يقال درجات، وهذا صحيح، لكن المؤكد بالتالي أن الإلحاد درجات كذلك. وفي كثير من الأحيان يصعب العثور على الجدار الفاصل بين لحظة الإيمان ولحظة الإلحاد. ثمة منطقة رمادية شاسعة تجعل النقاش حول "إما وإما" مجرد اختزال لحجم هائل من التعقيدات العقلية والوجدانية واللاشعورية كذلك، وعلينا ألا ننسى اللاشعور الجمعي. لا شك أن الشرط الإنساني في منتهى التعقيد، وأن أكثر المسائل التي يظهر فيها التعقيد مسألتان : الميول الدينية والميول الجنسية. الاختزال يغري طالما لا يتعب العقل الميال بطبعه إلى الخمول، لكنه يشلّ مهارة الفهم في الأخير. عموما بوسعنا أن نعتبر الإلحاد مثل الإيمان، حق من حقوق الإنسان، حق متعلق بحرية الضمير الذي لا يحاسب عليه إلا الله في الحساب الأخير. ولقد دخلنا فعلا في عصر متّسم بالسيولة العقائدية والهشاشة الروحية بنحو يجعل الشخص الواحد ينتقل من دين لآخر بسلاسة لم تكن متاحة في سابق العصور، أو يخرج عن الدين بيُسر غير معهود، ثم يعود إليه في أي وقت وحين، وأحيانا بدون سبب مقنع، فالأمر يتعلق أصلا بأحد مجالات انعدام اليقين وسط حياة قصيرة ومضطربة. بل ثمة ظاهرة جديدة تتعلق بسرعة الانتقال من أقصى التطرف الديني إلى منتهى الإلحاد. بوسعنا التذكير بتجربة عبد الله القصيمي الذي كان من أبرز علماء الدين الوهابيين في المملكة السعودية، وكانت لديه كتب ومؤلفات لم يسلم من تكفيره فيها إلا الحجر والشجر، قبل أن ينقلب بسرعة قياسية إلى داعية للإلحاد، ولديه في مرحلة الإلحاد أيضا مؤلفات تنكر الألوهية والنبوة والبعث وتسخر من كل حقائق الدين. وإن كان العلماء الرسميون والجماعات التكفيرية جميعهم تفادوا تكفيره رغم كفره البواح، فذلك باعتبار الحرج الكبير الذي سيبعثه تكفير أو محاكمة أو استباحة دم شخص كان من أبرز شيوخ الوهابية. عموما، أعرف الكثير من الأصدقاء الذين انتقلوا بنحو فجائي من تجربة الجهاد إلى تجربة الإلحاد. دون أن ننسى أن هناك عوامل حضارية كبرى لظاهرة الخروج عن الدين، من بينها الأسئلة التي تثيرها تطورات الهندسة الوراثية ولا يستطيع التدين التقليدي التعاطي معها، فضلا عن تطور المفاهيم الحقوقية في مسائل الحياة والجنس بنحو جذري لا تسايره معظم المؤسسات الدينية. ناهيك عن الفتن الحارقة التي أشعلها ولا يزال يشعلها زخم كبير من فقهاء الدين، دون احتساب مذابح "المتدينين" في سورية والعراق وليبيا ونيجيريا وغيرها، بدعوى التطبيق الحازم لأوامر النصوص المقدسة.. كل ذلك من الطبيعي أن يتسبّب في أزمة غير مسبوقة داخل العقل الديني عموما، والعقل الديني في الإسلام على وجه الخصوص. هنا لا ينفع الإنكار. نحن في واقع الأمر نعيش شرخا دراماتيكيا بين اتجاهين شبابيين، اتجاه نحو مزيد من العنف والتطرف باسم الإسلام، يقابله اتجاه نحو الخروج عن الإسلام. والسؤال الأهم على وجه الدقة والتحديد، ليس عن أسباب الإلحاد، والذي هو مسألة خيارات وجدانية وفكرية في آخر التحليل، لكن السؤال الحقيقي يتعلق بارتباط ظاهرة الإلحاد بزمن موسوم ب"الصحوة الإسلامية". ما يعني أننا أمام مفارقة واضحة. إن أكثر المجتمعات الإسلامية التي تشهد موجة الإلحاد الشبابي هي أيضا أكثر المجتمعات تشددا في الدين، على رأسها إيران والسعودية، ما يجعل من الإلحاد في وجهه الآخر نوعا من الاحتجاج على تسلط "رجال الدين". وطبعا نتذكر كيف انفجرت موجة الإلحاد في مصر خلال فترة حكم محمد مرسي. يتعلق الأمر في تقدرينا بنوع من الاحتجاج الوجداني على إفلاس الإسلام السياسي نفسه، وعلى جرائمه أيضا. لنتذكر أسلوب قتل وسحل الشيخ حسن شحاتة بدعوى تشيُّعه إبان حُكم مرسي. أنت حين تقول للناس إن الإسلام هو الحل. سيصدقك الكثيرون، بل الأكثرون. لكنك حين تفشل في إيجاج حلول فعلية لمشاكل الناس، فهناك من الناس الذي صدقوك أو كادوا يصدقونك، من ستعتبرون بأن فشلك فشل للإسلام ذاته. وقتها لن تستطيع إنقاذ ماء وجه الإسلام بأن تقول للناس "أنا لا أمثل الإسلام". لأنك ستبدو كاذبا. منذ الوهلة الأولى قلتَ للناس إنك تمثل الإسلام، منذ الوهلة الأولى صنفت نفسك ضمن الإسلاميين، أو ضمن الحركة الإسلامية، بمعنى أنك نسبتَ نفسك إلى الإسلام، وجعلت نفسك ممثلا للإسلام. المؤكد أن الإسلام السياسي يتحمل مسؤولية جسيمة في ظاهرة الخروج الجماعي للشباب المسلم عن دين الآباء والأجداد، بل لعل أدلجة الدين قد أجهزت على الدور الروحي للدين، وقد تقضي عليه في الأجل القريب. وكما يقول حامد عبد الصمد في كتابه المثير، سقوط العالم الإسلامي، "الدّين الإسلامي يختفي تدريجيا من القلوب والضمائر، وصار لا يظهر سوى في اللّحي والشعارات. فإنّ من يصرخ بإسم ربّه في الطرقات قد فقده في وجدانه منذ زمان". إلى أي حد ساهمت مواقع التواصل في توفير بيئة آمنة من أجل التعبير عن حرية المعتقد؟ لا أظن أن مصطلح "بيئة آمنة" مناسب. فعلا، لقد وفّرت مواقع التواصل الإجتماعي مجالا مفتوحا للتعبير والتواصل والتحاور. هذا ما لا شك فيه. لكن الشعور بالأمن لا يرتبط بالواقع الإفتراضي وحده، وإنما يرتبط بالواقع الفعلي. من الواضح أن مواقع التواصل الاجتماعي بقدر ما وفرت فرصا للتعبير الحر، فإنها قادت في المقابل العديد من المدونين الشباب إلى غياهب السجون وزنازين الإعدام : المدون السعودي رائف بدوي محكوم عليه اليوم بعشر سنوات سجنا، والمدون الموريتاني ولد امخيطير يوجد الآن في زنزانة الإعدام في انتظار تنفيذ الحكم أو رحمة السماء. والأمثلة كثيرة. كثير من المدونين اغتيلوا في العراق وسورية والأردن بتهمة الردة. أظن أن أحكام الردة مادامت موجودة في القوانين الجنائية لغالبية الدول الإسلامية، وراسخة في العقل الديني لعامة الناس، فمن الصعوبة بمكان الكلام عن بيئة آمنة، حتى ولو كانت مواقع التواصل الإجتماعي توفر بلا أدنى شك فضاء للنقاش العمومي الحر. إن البيئة الآمنة تصنعها دولة الحق والقانون على أرض الواقع الفعلي. وهذا بالضبط ما يجعل الكثير من ضحايا الإضطهاد الديني في العالم الإسلامي يضطرون إلى اللجوء للمجتمعات الغربية طلبا للأمان، وهذا على الرغم من أن التهديد بالاغتيال يستمر في ملاحقة عدد منهم. ولولا القدر العالي من الحماية الأمنية التي وقفت بنفسي على بعض طرائقها، لكنا نسمع باغتيالات في عدد من العواصم الغربية، على منوال ما حدث في الجزائر وتونس والأردن وغيرها. علما بأن دواعش ضواحي العواصم الغربي أكثر شراسة في بعض الأحيان. الفارق الكبير في كل الأحوال أن دولة حقوق الإنسان تحمي الإنسان من اضطهاد أخيه الإنسان. وهذا ما نفتقده في مجتمعاتنا حيث تسود ثقافة إلقاء اللوم دائما على الضحية. هل يعد اللجوء إلى مواقع التواصل خطوة لإثبات الذات بانتظار قوانين تضمن الوجود العلني، أم هي مجرّد محاولات للفت الانتباه من خلال مناقشة مواضيع "مقدسة"؟ منتديات التواصل الاجتماعي، والتي أعتبرها بمثابة آليات للتواصل الأفقي، حيث يتمّ إنتاج التخاطب بدل الخطاب، التحاور بدل الحوار، التواصل بدل الاتصال، تمثل في حد ذاتها بوادر ثورة ستؤثر بلا شك على العقل الإنساني، وسترغمه على التطور نحو نوع من العقلانية التفاعلية. المشكلة أن هناك من سيعاند التطور. ومن يعاند التطور يموت. لكن المعضلة أن الموت قد لا يكون آمنا في بعض الأحيان. إن التلفاز والمذياع والكاسيط مثلا هي آليات للتواصل العمودي، حيث هناك صوت الخطيب المفوه، وهناك آذان المنصتين المتلقين، تماما مثلما هو منبر الجامع، ومنصة مدرج الجامعة، حيث تصدر الحقيقة عن صوت الخطيب ليتلقاها المتلقون بانفعال سلبي وبدون أي تفاعل إيجابي. لذلك ارتبط زمن التلفاز والمذياع والكاسيط بهيبة صوت الحقيقة المطلقة. نتكلم عن علاقة فديل كاسترو بالتلفاز، وعلاقة الخميني بالمذياع، وعلاقة عبد الحميد كشك بالكاسيط، إلخ. أظن أن آليات التواصل الأفقي اليوم لا تتحمل ذلك النمط من مركزية الصوت الواحد. إنها تثير لدى الجميع الرغبة في التفاعل والتعبير. وهذا الأمر ليس بالمعطى الإيجابي ولا هو بالمعطى السلبي، وإنما يجب الوعي به والاستعداد للتعاطي مع تحدياته. إن معركتنا ضد التطرف الديني اليوم ليست معركة ضد زعامات كاريزمية محددة بحيث يمكننا التخلص منها أمنيا أو عسكريا حتى ننهي المشكلة كما ظنت إدارة أوباما، والتي نفذت عمليات اغتيال دقيقة أملا في تضييق مساحة الحروب، لكننا في واقع الحال نواجه حربا طاحنة ضد فكرة نظرية بالغة الخطورة وتتخذ تجليات مختلفة وعابرة. نحن نصارع فكرة "شريرة" بكل المقاييس لكنها تسري بين النفوس مثل العدوى، فتتخذ مظاهر متحولة، مثل "الأرواح الشريرة". هذا ما يجعلها بدورها تستطيع الاستفادة من مواقع التواصل الإجتماعي. في رأيي أن الذي سيحدّ من مرض الجهاد ليس إعلان الإلحاد، حتى وإن اعتبرنا هذا الإعلان حق من حقوق الإنسان لا يمكن المساس به، لأن الإلحاد مجرد حل شخصي لمعضلة جماعية. إن الذي سيحد من المرض هو إصلاح العقل الجمعي من الداخل. وهذا ما نسعى إليه. تغلب على خطابات الشباب الملحد نزعة العقلانية، لكنه يتبنى لغة مهاجمة وعنيفة، هل يزيد هذا من العداء الافتراضي لهذه الفئة بطريقة تقطع أي محاولة للنقاش المتعقل؟ مرة أخرى، لا أظن أن العنف هنا كلمة دقيقة. داخل مجتمعاتنا الإسلامية، من المغرب إلى إندونيسيا، بل وحتى في ضواحي العواصم الغربية، فإن الملحد المتحمس لإلحاده في واقع الحال هو الضحية الافتراضية للمؤمن المتحمس لإيمانه. لا أنكر بأن المؤمن هو الشخص الذي يجب أن يأمن الناس منه. بل هذا ما يجب أن يكون. يجب أن يكون المؤمن هو الأكثر تسامحا طالما رهانه أكبر من مطامع الدنيا بكل سلطاتها وثرواتها، يجب أن يكون المؤمن هو الأكثر رحمة طالما أنه يشعر بأن عرش الرحمان داخل قلبه بالذات. أو هكذا يفترض. لكن واقع الحال يؤكد العكس. لا نرى في أي مكان شخصا ملحدا يقتل شخصا مؤمنا لأنه مؤمن، لكننا نرى مؤمنين كثيرين يقتلون ملحدين لا لشيء سوى لأنهم ملحدين. طبعا ليس بهذا النحو يجب يكون الإيمان، لكن ليس كل ما يجب أن يكون يكون بالفعل. في دراما تاريخ الإسلام يصبح حراس الخليفة هم الخطر الأكبر على الخليفة عندما يُسمح لهم بالتغوّل على سائر الناس. دعنا نقول، اليوم أصبح حراس الدين هم الخطر الأكبر على الدين بعدما سُمح لهم بالتغول على سائر الناس. بلا شك، تستدعي القدرة على التعايش الديني والطائفي والمذهبي قدرا واسعا من الحرية الدينية، وتقتضي الحرية الدينية تغيير الكثير من القوانين التي تستمد روحها مما يسمى بحد الردة. وإذا كان الإسلام دين الفطرة كما نقول، يبقى السؤال، ما الداعي إلى وجود قوانين جنائية تُكره الإنسان على ما لا إكراه فيه أصلا، وفق الفطرة، وتبعاً للخطاب القرآني. بالطبع، في غياب الحرية لا يكون هناك أي نقاش، تكون هناك فقط أوامر تُطاع، وأوامر تُعصى. وهذه هي مشكلتنا بالأساس.