لم يترك نجيب محفوظ مساحة كبيرة للكتاب المعاصرين لزمانه أو اللاحقين له للكتابة في عوالم القاهرة وضواحيها وطبقاتها الاجتماعية في القرن الماضي.. لكن رواية "104 القاهرة" التي صدرت في أكتوبر تشرين الأول من الأعمال القليلة التي تقتحم هذه المنطقة وتبدع فيها فكان ذلك أشبه بدخول النار لكنها خرجت من الناحية الأخرى بيضاء ناصعة الإهاب! وفي الرواية التي صدرت عن "بيت الياسمين" ترسم الكاتبة الروائية المصرية ضحى عاصي صورة القاهرة بوجوهها المختلفة التي اكتست بها على مدار بضعة عقود ماضية وبشكل خاص الطبقتين الوسطى والفقيرة وهي نفس المنطقة التي أبدع فيها الأديب المصري الحائز على نوبل. لكن هذه الرواية تحاول أن تجد لنفسها مكانا وتحتفظ لكيانها بوجود من خلال مناقشة قضية السحر والشعوذة التي كانت وما زالت منتشرة خصوصا في الحواري والمناطق الشعبية. باختصار تسعى للإجابة على السؤال هل تدفع الضغوط الاجتماعية والاقتصادية والشخصية سكان هذه المناطق إلى خلق عوالم متخيلة لا وجود لها وتصور لها أن لعالم الأرواح سلطة وسطوة على حياة البشر ومصائرهم ؟ هل هذه الأفكار مجرد أوهام لطبقة مأزومة؟ أم أن لهذه الأشباح عالما خفيا يتقاطع أحيانا مع العالم المعاش ويؤثر عليه بالسلب والإيجاب؟ وتترك الإجابة على السؤال للقارئ في الفصل الأخير من العمل الأدبي. تتتبع القصة حياة الطبقة الوسطى كمحور أساسي للبنيان المجتمعي وأحد أهم مقومات وجوده وما طرأ عليها من تغييرات كبيرة حتى نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين لتكتب في مساحة زمنية أخرى لم يعشها محفوظ وبالطبع لم يكتب عنها.. الرواية ثرية بعدد كبير من الشخصيات التي تتقاطع حياتها وتتداخل مصائرها وتؤثر وتتأثر ببعضها البعض لكن تربطها جميعا في النهاية شخصية محورية هي "انشراح" بطلة العمل وأيقونته الأثيرة. وفي الوقت الذي توظف فيه الروائية ضحى عاصي كل أدواتها الفنية والأدبيةفي خدمة العمل بشكل عام فإن قراءة الرواية تشي بأن هناك اهتماما واضحا بالمرأة ربما لأنها العنصر الأضعف في معادلة الحياة والتي تظهر عليها بشكل أسرع تأثيرات التغيرات الحادة التي تمر بها المجتمعات. فأهم شخصيات العمل التي تستحوذ على المساحة الأكبر والنصيب الأوفر منه "انشراح" و"ناهد" و"غادة" و"منال" و"الجدة" و"حياة". وفي المقابل الحبيب "إبراهيم" والزوج "حسن" ورجل الأعمال عادل هيدرا والمايسترو"أشرف الدمرداش". تفاجئنا الرواية بأسلوب جديد للحكي على لسان سيدة متوفاة تصف مشهد جنازتها وتتحدث عن الحاضرين ومدى صدق مشاعرهم ومشاعرها الحقيقة هي الأخرى تجاههم (كما تحسها من العالم الآخر)! لا تترك الكاتبة شخصياتها معلقة في الفراغ بل تربطها بالمجتمع وتحولاته مرورا بالانتقال الكبير من الملكية إلى الجمهورية والحروب الثلاثة مع إسرائيل والانفتاح الاقتصادي ومقتل الرئيس الأسبق أنور السادات والغزو الإسرائيلي للبنان وقصف مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. في الوقت نفسه تظهر بطلة القصة "انشراح" شاهدة على كل التحولات وكاشفة لعورات المجتمع خلال هذا الزمن.. "انشراح" التي أخذت في طفولتها العهد من جدتها "نرجس" المتمرسة في قراءة الفنجان وطقوس الشعوذة بطلب من الجيران لجلب البركة وفك العقد وحل المشاكل.. ورغم نبوغها في دراستها والكاريزما التي تتمتع بها منذ الطفولة اضطرت لأن تترك المدرسة بعد أن أصرت زوجة أخيها "سيد" على أن تخدم معها في المنزل. كانت انشراح كلما واجهت مشكلة أو صدمة يأتيها صوت زائر ليلي لا تعرف من هو.. يهمس في أذنها بكلمات غير مفهومة أحيانا عن الروح والجسد وعوالم خفية غامضة.. لا تعرف انشراح يقينا ما إذا كان هذا الصوت حقيقيا أم من وحي الخيال…وتتساءل "ممكن يكون أصوات شخصيات وهمية خلقها الخيال لاحتياجى إلى ونيس..ممكن يكون صوت روحي التي رفضت أن تصدق أنها ضعيفة.." أحبت إبراهيم طالب الهندسة .. "إبراهيم هو عالمي الذي أحبه فمعه عرفت لوركا وجلال الدين الرومي وسارتر والحكيم…أشتاق إلى سعادة حقيقية سعادة لا تخرج من خيوط الفناجين الملتوية.. سعادة أعيشها واستمتع بها." تعلقت بإبراهيم الذي سرعان ما أرسل في بعثة إلى فرنسا وألقى بذكرياتها في البحر.. عاشت لسنوات تنتظره لكنه لم يأت.. اضطرت في نهاية المطاف وبنصيحة من الزائر الليلي المجهول أن تتزوج من الأسطى حسن المنجد الذي كان شاهدا على حبها لخاله إبراهيم وعلى بعض مغامراتها البائسة مع صبيان المنطقة بعد الجرح الذي تسبب فيه خاله.. عندما يصدمها الواقع بهروب الحبيب "الأمل..الحقيقة" والزواج من حسن "الواقع.. المفروض" ترتد إلى العالم الآخر .. عالم جدتها "المعجونة بالخرافات".. تتعرف انشراح على أسرة الدكتور المرزوقي وسرعان ما نشأت صداقة قوية بينها وبين ابنته ناهد.. هذه الصداقة التي سمحت لناهد بأن تبوح لها بسر غلطتها مع شاب فلسطيني..فال لها بعد أن علم بحملها "أب بلا وطن.. ابن بلا وطن.. لو استمر هذا الحمل ستظلين تحملين مشكلة الشعب الفلسطيني كله طوال حياتك".. قالها وسافر ليترك ناهد تندب حظها العاثر. بسبب تدهور أحوالها المادية اضطرت انشراح للعمل كممرضة في منزل عائلة مسيحية ثرية عائلة الدكتور عادل هيدرا..كان عادل يهذي باسم "غادة".. عرفت أنها أعراض صدمة نفسية جراء مشكلة عاطفية.. تعرفت على غادة التي ترفض الارتباط بعادل لأنه مسيحي ولا تريد أن يغير دينه من أجلها. بعد وفاة سيد عويضة شقيق انشراح تقوم زوجة سيدالمتسلطة بإجهاض "منال" زوجة طارق سيد عويضة وإقناع طارق بطلاقها بزعم أن الجنين لميكن من صلبه.. تتعاطف انشراح مع منال. وتجتمع النساء الثلاث (ناهد وغادة ومنال) في منزل انشراح ليرتبط الثلاثة برباط قوي ترعاه وتحافظ عليه "العمة" انشراح. وربما بفعل الصدمة تتحول منال إلى فتاة هوى مراوغة. والغريب أن أسلوبها المراوغ دفع الكثيرين من راغبي المتعة لطلب يدها والتقدم بعروض سخية للزواج.. بينهم المستشار حاتم الذي حطم غادة (الفتاة اليسارية المثقفة).. كان قد تزوجها بعقد عرفي وطلب منها أن يظل هذا الزواج طي الكتمان للحفاظ على مكانته الاجتماعية لتفاجأ به يترك لها رسالة مكتوبة على المرآة "أنت طالق". ويعود ليظهر في حياتها من جديد في شكل "عريس" لمنال طالبا الزواج الرسمي على أن يفرضه على زوجته وأبنائه كأمر واقع! تدور معظم أحداث الرواية في أحياء شعبية فقيرة.. الدرب الأحمر.. المغربلين.. البساتين.. وتسلك مسلكا مغايرا في السرد الزمني لتبدأ بالنهاية (مشهد العزاء) وتعود إلى البداية مرة أخرى ليمضي الزمان في تقاطعات وتداخلات لكسر الملل والرتابةوربط القارئ بالأحداث كأنه جزء منها. وكما بدأت الرواية التي تقع في 265 صفحة بأسلوب غير تقليدي تختتم أيضا بمشهد مهيب… عندما تحتضر انشراح يأتيها الزائر الليلي يقول لها إن سيارة دفن الموتى تستعد لحمل جثمانها.. فتطلب وهي تحتضر من صديقتها غادة أن ترقبالسيارة.. فإذا كانت تحمل الرقم "104 القاهرة" فإن ذلك يعني أن كل ما كان يبلغها به الزائر الليلي حقيقي لتبقى الحقيقة معلقة على لوحة الأرقام.. في مشهد الجنازة يتجمع الفرقاء.. حتى إبراهيم حبها الأول يظهر في الجنازة في مسجد عمر مكرم بوسط القاهرة حيث يشغل منصبا دوليا ويفسح له الجميع مكانا في الصدارة.. أما طارق سيد عويضة ابن أخيها يقف ليأخذ العزاء في عمته بعد أن صار رجل أعمال كبيرا وعضوا في مجلس النواب وهو الذي دمر حياة منال وجعل منها فتاة ليل… المستشار حاتم الذي حطم غادة وتخلى عنها بكلمتين كتبهما على المرآة "أنت طالق".. رضا الحلواني رجل الأعمال المسن الذي تزوجته منال كان حاضرا أيضا. هذا المشهد لا يخلو من مفارقة أو إشارة رمزية.. فكأن التغيرات التي طرأت على المجتمع المصري منذ منتصف القرن الماضي جعلتهؤلاء الأنذال والانتهازيين هم من يتصدرون المشهد ويتبادلون التعازي على جثة انشراح!!