مرة أخرى تزهق الأرواح في الجامعة، وبينما لم ننس بعد مأساة الطالب الحسناوي الذي لقي مصرعه في مواجهات عنيفة بين طلبة قاعديين وطلبة العدالة والتنمية السنة الماضية، ها نحن أمام مأساة جديدة ضحاياها طالب من الحركة الثقافية الأمازيغية وآخر من الطلبة الصحراويين المحسوبين عى التوجه الإنفصالي في الجامعة (وإن كانت وزارة التعليم العالي قد كشفت أن الضحيتين غير منتسبين للجامعة)، وغالب الظن أن هذا المسلسل الدموي لإزهاق الأرواح لن يتوقف لا بترديد عبارات الإدانة والشجب ، ولا بإجراءات ما يسميه الطلبة في أدبياتهم التاريخية ب«عسكرة» الحرم الجامعي. ولسببب ما أشعر أني أنتمي إلي ذلك الجيل من المسؤولين الطلابيين الذين يتحملون اليوم المسؤولية المعنوية عما يحدث الآن في جامعاتنا من اقتتال لا يليق بأدبيات وأعراف التعايش بين الفصائل الطلابية المعترف بشرعيتها التاريخية و المتنازع حول مشروعية انتمائها للإتحاد الوطني لطلبة المغرب. لقد كانت أمامنا سنوات التسعينات فرصة ذهبية لإعادة هيكلة النقابة الطلابية وإرساء قواعد التنافس الديمقراطي بين مختلف مكونات الجسم الطلابي، حيث يسود الحوار والتفاوض بدل تبادل اللكمات وطعنات السكاكين، لكنننا لم نخرج من لعنة الفرض الضائعة. وتعود بي الذاكرة وأنا أتابع مأساة الطالبين القتيلين إلى بداية التسعينات حين اندلعت شرارة العنف الجامعي في تجلياتها الأكثر دموية بجامعتي فاس ووجدة، كنت حينها طالبا في السنة الأولى حقوق وحديث العهد بالحركة الطلابية، وكانت قيادتنا في فصيل الطلبة الديمقراطيين قد دعت إلي حوار بين الفصائل الطلابية، وأساسا بين الفصائل اليسارية وطلبة العدل والإحسان الذين اعتبروا حينها الجامعات قلاعا للإلحاد ينبغي تطهيرها من «الكفار» وإعلانها تخوما حررها الإسلام من الماركسييين «الذين يعتبرون الدين أفيون الشعوب» كما قال كارل ماركس ذات لحظة وعي طبقي لم يكن يصلح بالضرورة لخصوصيتنا المغربية. كانت مجرد هذه الدعوة من طرفنا، نحن طلبة منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، إلى الحوار بين اليساريين الذين يجترون صراعات فشل المؤثمر الوطني السابع عشر للإتحاد الوطني لطلبة المغرب، وطلبة العدل والإحسان الذين يريدون الجامعة منطلقا لتحقيق القومة الي بشر بها الراحل عبد السلام ياسين ، كافية لأن تجعلنا موضع تنديد من جانب الرفاق الاتحاديين والقاعديين حتى بقية الشتات اليساري، والحال أننا لم ندع لا إلى تحالف ولا إلى تنسيق استراتيجي، كنا نعرف حدود المممكن إيدولوجيا في ساحة طلابية تغلي بالتناقضات، وقلنا فقط إن الحوار بين المكونات الطلابية هو المدخل الوحيد الممكن لوقف حمام الدم في الجامعة. ومنذ أن طرح أستاذي السي محمد بنسعيد أيت إيدر أطال الله في عمره سؤاله الشهير في البرلمان حول الحظر الذي تمارسه الدولة على النقابة الطلابية، وجواب إدريس البصري وزير الداخلية حينها بأن ليس هناك ما يمنع «أوطم» من استئناف نشاطه النقابي، انطلقت سلسلة مبادرات إعادة هيكلة النقابة الطلابية على قاعدة التوصيات التي خرج بها المؤتمر الوطني السابع عشر الفاشل أو الذي تم إفشاله لا فرق في ذلك الآن، ومن مبادرات اللجان الجامعية الإنتقالية إلى مساعي عقد المؤثمر الذي تم تعليق أشغاله، كان الفشل الذريع يتربص بنا في كل محطة نلتقي فيها نحن مكونات اليسار الطلابي وقد صرت يومها كاتبا عاما لفصيل الطلبة الديمقراطيين، البعض منا كان يخوض صراعا مريرا حول من يمتلك شرعية تمثيل الطلبة القاعديين المنشطرين حينها إلي ثلاث تيارات، والبعض الآخر كان يجمع أوراقه ويهم بالإنسحاب بمجرد أن تذكر ضرورة إشراك طلبة العدل والإحسان في أي مبادرة تسعى إلي التعايش الطلابي الذي ينهي دوامة العنف الدموي. والواقع أن أغلب مكونات اليسار الطلابي كانت تختبئ خلف أطروحة التناقض الإيدولوجي مع الإسلاميين وافتقادهم للشرعية التاريخية لتهرب من الحوار وإخفاء العجز عن هزم الإسلاميين في انتخابات التعاضديات، لقد كانوا قوة عددية مبهرة، وكنا شتاتا تتضاءل صفوفه يوما بعد آخر، وكانت لحظة الحسم حين تجرأ طلبة العدل والإحسان على طرد القيادة الإتحادية من جامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، و بقية القصة معروفة حى انتهائها بصدور المذكرة الوزارية الثلاثية التي أعادت «الأواكس» إلى الجامعات، معتقدة أنه السبيل الوحيد إلى وقف العنف الدموي. لكن المذكرة الوزارية التي أشرف عليها إدريس البصري لم توقف لا عنفا ولا حفزت على التقارب الطلابي، مثلما فشلت التدابير الأمنية التي أعلنها الحسن الداودي وزير التعليم العالي ومحمد حصاد وزير الداخلية السنة الماضية بعد مقتل الطالب الحسناوي في وقف دوامة العنف التي حصدت الأسبوع الماضي روح مواطنيين مغربيين في رحاب كلياتنا بمراكش وأكادير. وأكاد أجزم أن شبح الموت سيظل يحلق في فضاءاتنا الجامعية ما لم تتم الإجابة عن إشكال التنظيم النقابي الطلابي، وما لم يتوافق أطراف الصراع الجامعي حول قواعد التعايش المشترك. إنه لمؤسف حد المرارة ذاك الإنهيار الفظيع في مستوي التأطير الذي تقدمه الحركة الطلابية المغربية للآلاف من الطلبة الذي يجدون أمامهم اليوم نماذج مأوساوية لممارسة الإختلاف تنفرهم من العمل السياسي ومن الهم النقابي، ومع ذلك، فأنا لا ألوم هذا الجيل من المناضلين الطلابيين الذين تعقدت خارطتهم السياسية التي تجاوزت التناقض الإسلامي اليساري إلى تناقضات أخري يتداخل فيها المكون الأمازيغي بالنزعة الإنفصالية الصحراوية، بقدر ما ألقي بكل العتاب والمسؤولية على بعض الأحزاب التي تواطأت مع جهات في المخزن سنوات الثمانينات لتعطيل مسار الإتحاد الوطني لطلبة المغرب، ثم تواطأت سنوات التسعينات مع ذات المخزن لنسف أي محاولة لإحياء «أو طم»، دون أن أتبرأ من المسؤولية المعنوية لأبناء جيلي من المناضلين الطلابيين الذي فشلوا في أن يتمردوا على الحسابات الضيقة لأحزابهم ويعلنوا منتصف التسعينات الإتحاد الوطني لطلبة المغرب نقابة طلابية تسع لجميع أبناء الجامعة بمبادئها في الحوار والتعايش والتداول على سلطة القرار الطلابي. في هذا العمق وهذا التاريخ يوجد إشكال العنف الذي يحصد أرواح الطلبة في الجامعة اليوم، وما لم تتقدم الفصائل الطلابية إلى طاولة الحوار مدفوعة بدعم سياسي معنوي من الطبقة السياسية المغربية، فلن تنفع لا تهديدات الوزير الداودي بطرد المتورطين في العنف أو تجريدهم من المنحة، ولا سيارات الوزير حصاد المحملة برجال الشرطة وقوات التدخل السريع، في وقف مأساة هذه الأرواح التي تزهق مخلفة عارا يطاردنا جميعا. يونس دافقير