يشتركون نفس الملامح الطفولية. لكنهم أطفال من طينة استثنائية، فرضت عليهم طبيعتهم الجينية امتلاك مواصفات خاصة، تتأرجح بين العزلة التامة، والانفعالات الخارجة عن حدود السيطرة. خلف كل واحد منهم حكاية والدة متألمة، تشكل إحدى التداعيات التي يفرضها مرض التوحد. »تعبت، ولم يعد بوسعي الاستمرار» تقول فتيحة التي حول مجيء المولود الذكر حياتها إلى جحيم. تعلم الأم أن ابنها لا يشبه باقي الصغار، وتعلم أنه مصاب بمرض التوحد الذي اكتشفت اسمه لأول مرة من طرف ابنة عمها التي أخبرتها أن غرابة سلوك ابنها، لا يتعلق بسوء التربية، وأن تغييره لن يكون باستخدام الضرب والتخويف، وفقا للنصائح التي لا تكف النساء في سردها بمجرد أن تجتمع بهن تحت سقف واحد. عاجزة عن العلاج الصحيح نتيجة لجهلها بطبيعة مرض ابنها، لا تنكر فتيحة أنها جربت استخدام كل وسيلة اعتقدت أنها ستكون ناجعة، «قمت بضربه لعدم مبالاته، وأخذته للأضرحة، واستعنت بالرقية الشرعية، حرمته من ألعابه من أجل اجبار على مشاركتها مع أبناء شقيقاتي، طلبت من المعلمة أن تتشدد من عقابه نظرا لكسله، لكن شيئا لم يتغير»، تقول فتيحة التي لم تكن تدري أنها تساهم في تعقيد حالة ابنها، الذي أصبح أكثر عصبية، وانغلاقا. بين نصائح الضرب والتأديب، على اعتبار ابن فتيحة “قليل ترابي” كما يصفه المحيطين، كانت نصائح ابنة عمها الخيط الرفيع الذي يربطها بحقيقة مرض ابنها، لكن معرفة الحقيقة لم تغير شيئا نظرا لإمكانيات الأسرة المتواضعة. لم يكن في مقدور فتيحة التي لا يتجاوز مدخول زوجها 3000درهم، والأم لثلاثة بنات، أن تتحمل مصاريف الاستشارة النفسية، وما يتبعها من خطوات علاجية مكلفة، لتزداد حالة الابن تعقيدا. حاولت والدة فتيحة الدخول على الخط «حيت اعتبراتني مكنعرفش نربي، وغادي نخليه أناني مكيقسمش حوايجو مع الناس». قررت الجدة تعليم حفيدها بعضا من فنون العيش الاجتماعي، « قالت لي غادي تخليه معايا سيمانا، ومني غادي ترجعي مغاديش تعرفيه». غير أن خبرة الجدة تبددت أمام عناد الحفيد الذي جعلها تطلب عودة ابنتها لاصطحابه في اليوم الموالي. توالت الأيام، لتصبح حالة الابن أكثر سوءا أمام غياب الرعاية الملائمة، «كنحس بالحكرة حيت الولد اللي تسنيت، مكيعرف يهدر بحال الولاد، مكيعرف يلعب، كيبكي بلا سبب، ماعندو صحاب في المدرسة، مكيعرف يقرا واخه المعلمه، وباباه قتلوه عصا...حتى العصا مكتنفعش معاه كيبقى يشوف فينا وحنا كنضربو فيه، حتى كيعصبنا بلاما يطيح حتى دمعة»، تقول فتيحة بعد احساسها بالعجز أمام حالة ابنها، الذي أصبحت تتخوف من سلوكه، وردود أفعاله الغير متوقعة. أصبحت فتيحة عرضة لإمكانية التعرض على يد ابنها في حال انتزاع أغراضه دون موافقته. تتذكر الأم أنها فوجئت بابنها ينقض عليها، ويحاول خنقها بعد أن انتزعت من بين يديه سدادة قارورة كان يمعن النظر إليها، متجاهلا نداءاتها له، لتقرر انتزاعها بالقوة. كانت الأمور لتنتهي بطريقة مأساوية، لولا تواجد والدة فتيحة واثنين من شقيقتها اللواتي تمكن من تحريرها من قبضة ابنها بصعوبة، بعد أن فوجئن بقوة تفوق سن الابن ذو العشر سنوات. زيارة العائلة بالنسبة لفتيحة، محصورة في زيارة بيت والدتها فقط، دون أن تتمكن من المبيت، بعد نوبات البكاء الهيستيرية التي تستمر لساعات متواصلة، دون أن تنال من عناد الابن، «لا أفهم سبب بكائه عندما أقرر المبيت عند والدتي، مع أنه عادة يلتزم الصمت الذي يجعله أشبه بالجماد داخل البيت». «لمن غادي تخليه؟» بعيدا عن جدران البيت، وبالضبط خلف أسوار مؤسسة عبد الله بن ياسين الابتدائية، تمكنت أم من اقتسام معاناتها مع أمهات أخريات، لتتمكن من تحويل جناح مهجور من المدرسة، إلى أقسام استثنائية تفك العزلة المفروضة على الأطفال المتوحدين. اختارت نجية بن موسى الحديث عن معاناتها كأم، بعيدا عن صفتها الجمعوية باعتبارها رئيسة لجمعية إدماج لذوي الاحتياجات الخاصة. «لا يوجد توجيه منذ البداية من قبل الأطباء، يبقى هناك نوع من التماطل دون أن يتم تشخيص الحالة. بعض الأطباء لا توجد لهم دراية بالمرض، وبالتالي لا يساعدون في الكشف عنه منذ البداية... أصلا لا ينطقون لفظة توحدي، بل يتحدثون فقط عن اضطراب نمو سلوكي، أو فرط حركة، لذا يمكنني القول أن العائلات التي رزقت أطفالا في السنوات الماضية، كانت أقل حظا، لغياب المعلومات، والمختصين». تقول نجية بن موسى التي لم تكتفي بالمهمة الشاقة في العناية بابنها المتوحد البالغ من العمر اليوم تسع عشرة عاما، لتقتسم مع باقي الأمهات السهر على توفير محيط مناسب للأبناء، بعد أن خبرت جيدا سلوكاتهم المرهقة، التي حصرتها في اضطرابات النوم التي تعني حرمان الأم أيضا من النوم، إضافة لعجزهم عن الاعتناء بنفسهم، مما يلزم الأم بالبقاء جانب ابنها لمساعدته على الأكل والشرب، وتغيير ملابسه، و أخضه للمرحاض، مع تحمل تعليقات المحيطين القاسية التي لا تتوانى عن وصف الابن على أنه “قليل تربية”، أو أن “والديه ما مربينوش”. تتحدث نجية بن موسى صراحة عن العزلة التي تعيشها الأسر، لأنهم يعجزون عن استقبال الضيوف، ولا يرحب بهم كضيوف، لأن العائلة تصبح مكروهة بسبب طباع الابن المتوحد. «عاوتاني جات هاديك بولدها، غادي ديرونجينا»، عبارات قاسية، لكنها متداولة في حق والدة الطفل المتوحد التي تضطر لتحمل المسؤولية لوحدها، أما الأب فيتبنى أحد الموقفين إما يطلق البيت، أو يطلق زوجته، تهربا من تحمل المسؤولية كما تقول نجية بن موسى، التي ترى أنه لا خيار للأم في الأمر، « آش ديري... تلوحيه، فين غادي تخليه، ولمن غادي تخليه». ولأنها قررت أن لا تفارق ابنها،أصبح المحيط العائلي الذي كانت تتوسم فيه التفهم والمساندة، يمارس نوعا من الاقصاء، مما يجعل والدة الطفل المتوحد تشعر بالمحاصرة، والحرمان من الانخراط في ممارسة حياتها اليومية بشكل عادي، «مبقيتش كنتعرض، كيعرضو علي مرور الكرام، معنديش الحق نخرج للحفلات، نبدل، نخرج، نرتاح، نشوف العائلة. كنحس بقلبي كيتهز ويتحط إلى غاب على عيني دقيقة. إلى خرجت بالي كيبقى مشغول. إلى سمعت الباب تحل، كنخاف يكون هرب. » تختزل نجية بن موسى معاناتها التي تمثل معاناة كل الأمهات اللواتي رزقن طفلا توحديا. ليصبح الحذر السمة الحاضرة في حياة أمهات حرمن حق النوم، خوفا من استيقاظ الابن، وقيامه بفعل غير محسوب. كما أن بعض السلوكات العادية يمكنها أن تتسبب في مشاكل عائلية إذا تم التعنت أمام تفاصيلها، خاصة أن الطفل التوحدي يصبح أكثر عنادا حينما يحرم من الأشياء التي يحبها. ابن نجية يحب النعناع، وقد كان هذا الحب سببا في العديد من المشاكل، التي تتحمل تداعياتها القاسية الأم بالدرجة الأولي، «لم ألاحظ بائع النعناع حين كنت في السيارة، ليفاجئني ابني وهو يفتح النافذة ويقفز أثناء قيادتي للسيارة». وبسبب النعناع دخل الابن في نوبة عصبية، بعد أن رفضت خالته تزويده بالنعناع الذي وقعت عليه عينه داخل ثلاجتها، خلال زيارة عائلية كادت تتسبب بالقطيعة. تستمر مشاكل الأم خارج البيت كما خارجه، حيث تكون الأم مستعدة لأي رد فعل يصدر عن الابن الذي تعتبر مصاحبته خارج البيت أمرا متعبا، حيث يتعلق بالأشياء التي يرغب في الحصول عليها، ولا مفر من تلبية رغباته تجنبا لدخوله في أزمة عصبية. تصبح الأم مضطرة لتحمل المزيد من التبعات المادية، تجنبا “للشوهة” في الأماكن العامة. أقرب الناس لا يتفهمون « نبكي عندما نفكر في الغد. أنا أغمض عيني .. وأطلب من الآخرين الصمت. لا أريد أن افكر لأنه شيء مؤلم، الكلمة الوحيدة التي أرددها حين يفاتحني أحدهم عن الغد، هي ” صافي صافي”»، تقول نجية بعد أن وافقتها إحدى الأمهات الحاضرات الموقف والألم، لتشرع السيدتين في البكاء. بكاء سبقته حالة من تكذيب النفس التي عاشتها أم يوسف وهي تنتظر تغير حالة ابنها مع الأيام، بعد أن لاحظت أن ابنها لا يشبه باقي أولادها. حاولت تصديق المحيطين، «مالك زربانة دابه يهدر، راه كاين اللي دمو ثقيل». لم يتغير يوسف، لكن حياة أم يوسف تغيرت، «اضطر لعدم الخروج إلا للضرورة، أشعر أن أقرب الناس لا يتفهمون الوضع، مما يسبب نوعا من الاحباط، والاقصاء. أكون مضطرة لإنارة المصابيح في أي وقت من الليل للاطمئنان على ابني مما يسبب ازعاجا للآخرين» لكن معاناة أم يوسف اليوم، ليست هي معاناة الأمس بعد أن تمكنت من الحاقه بالأقسام الخاصة التابعة لجمعية إدماج الأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، بالحي الحسني. كان يوسف يقتصر على نطق كلمتين فقط، هما بيتزا، وبحر نظرا لحبه لهما مقابل تجاهله لأي شيء يحيط به، لتبقى الأم عاجزة عن فهمه، حائرة أمام نوبات البكاء والصرخ، دون أن تفهم ما يريد، لتجد نفسها في الكثير من الأحيان مضطرة لحمله بعد منتصف الليل بحثا عن العلة بين يدى الأطباء. اليوم تغيرت الأمور نسبيا، وأصبح يوسف أكثر تعلقا بوالدته بعد أن كان يفضل العزلة، كما أنها أصبحت تفهم ما يريد رغم تعثره في الكلام، وذلك باعتماده على الحركات حين لا تسعفه الكلمات، كما أنه أصبح يميز بين الأشخاص، ولم يعد متشنجا رفقة أشقائه، مع تراجع نوبات البكاء التي أصبحت لسبب، بعد أن كان يبكي بدون سبب. تحسن وضعية يوسف تطلب الكثير من تضحية والدته، التي تحاول انهاء كل أعمالها قبل عودته من المدرسة، حتى تتفرغ لرعايته، كما أن باقي أبناءها يساهمون في رعايته، من خلال مجالسته، والعمل على إخفاء مفاتيح الباب، والحرص على اقفال النوافذ تحسبا لأي مكروه، خاصة أن أم يوسف عاشت تجربة هرب ابنها في غفلة منها، مما جعلها دائمة الحذر. بالرغم من حالات الحذر، وتحسن الابن، إلا أن ردود أفعاله تبقى غير محسوبة، «لقد قام مؤخرا بحرق بعض الأقراص المدمجة داخل المطبخ، كما حاول حرق الطعام الذي كنت بصدد اعداده للضيوف كنوع من الاحتجاج لأنني رفضت أخذه معي للدكان». رفض أم يوسف سببه أن الطفل المتوحد يمكن أن يفاجئ مرافقه برغبته في سلك طريق مغاير، أو رغبته في الحصول على أي شيء يرتبط به، مما يربك مرافقه. سكينة بنزين