إن الخوض في موضوع الزجل، وفي الفعالية النقدية المواكبة له، على ضعفها وهشاشتها، لأمرٌ في غاية الصعوبة؛ وإني لأُقرُّ بأن اختيار الكلام في هذا الموضوع أصعب من تحبيره وتسويده. إلا أن طمعي في النبش في بعض أسئلته المستفزة، وكذا اجتراح بعض إشكالاته الشائكة، ظل هاجسا في مُستقرّة من خلدي. والحق أن للقصيدة الزجلية الراهنة بالمغرب خصوصية وعُمقا موصولين بهاجس السفر الأورفي المستديم، الذي لا ينفك عن أن يدفع بالسؤال الشعري نحو التخوم القصية للذات، والأشياء، والعالم، أو نحو ما يسميه موريس بلانشو، بالجدارة الوجودية لذات جمعية مغبونة، في هويتها الحرة. وباعتباري كنت دائما واحدا ممن يتابعون عن كثب، هذا الرافد الشعري المائز والماتع، إبداعا بالخصوص، أرى أنه آن الأوان، بالنسبة للمؤسسة الثقافية الرسمية، لكي تقف – بوعي ثقافي مسؤول لا يُذعنُ سوى للتعدد والاختلاف الشعري- عند هذا الأفق الشعري الجديد، بعيدا عن أي دوكسا شعري، ذاك الذي يتبرم، غمزا ولمزا، من هذا الاختيار المغاير، بعد أن فرض نفسه على العقليات الفيودالية عدوة الفكر والتحرر. لأجل هذا وذاك، ولأن المناسبة شرط، ارتأيتُ أن أقف عند هذا المفترق الشعري، مسجلا بعض الملاحظات، التي، ليس من شك، أنها ستحفر أخدودا، وستجترح سؤالا، في وعي كل مهتم، بهذا الألق الشعري المغربي الآخر. فبعد أن ظل، شعرُ الزجل، بالمغرب، يعاني سنين طويلة، من التهميش والإقصاء، المُمنهج والمقصود، من قبل عسس ميتافيزيقا الشعرية المعيارية، استطاع هذا المقترح الشعري المائز، أن يفرض نفسه، منذ تسعينيات القرن المنصرم، مثلما استطاع أن يُثبت جدارته وأحقيته، في الولوج إلى مملكة الشعر، منتزعا، بعد طول معاناة، بطاقة الإقامة الرسمية في وطن الشعر، على الرُّغم من كيد من يُسميهم ياكوبسن ببوليس الأدب. وبالنظر إلى طراوة، هذا الاعتراف، تقف مجموعة من الإشكالات والحفر، في طريق هذا الوافد الجديد، لابد من الالتفات إليها، وكذا التعاطي معها، بجدية ومسؤولية. إن أول إشكالية، ينبغي الحسمُ معها، هي مسألة التّسمية. فبالإضافة إلى تسمية "الزجل"، هناك من يسمي هذا الصنف من الشعر، بالشعر العامي، كما هو الأمر، عند الناقد اللبناني مارون عبود. فيما آثر بعضُ الشعراء، وسم هذه التجربة، بالشعر المحكي، على غرار الشاعر إدريس بلعطار. قد يبدو للبعض، أن مسألة التسمية، ليست بهذه الأهمية، ما دام المقصود واحدا. لكنني أرى، شخصيا، في ضرورة الحسم، مع الإسم، خطوة كبيرة ، نحو التأسيس والتأصيل. لقد حقق الزجلُ، بالمغرب، منذ تسعينيات القرن المنصرم، كما أسلفتُ، نقلة نوعية، وإضافة ضافية، وبادية للعيان، كمّا ونوعا، لمشهدنا الشعري المعاصر. تحقّق هذا، بعد أن أصبح الشاعرُ-الزجال، أكثر انفتاحا، على حقول معرفية عديدة، وأصبحت، من ثم، الكتابة الشعرية، عنده، تتغذى وتتقوت، من مجالات الفلسفة، والأسطورة، والحكاية الشعبية، والشعر العالمي… وبالتالي تكونت لديه رؤية شعرية، واضحة ومخصوصة، يكتب من داخلها، ما جعل المنجز الشعري الزجلي الراهن، يتميز بالثراء والانفتاح على الكونية. ولعل الترجمات التي حظيت بها بعض الأعمال الشعرية، لمجموعة من الشعراء، لأكثر من لغة، كأعمال الشاعر مراد القادري، وأحمد المسيح. وبعض مجاميع الشاعر إدريس أمغار المسناوي، تمثيلا لا حصرا، تؤكد الزعم السالف. وبلغة الإحصائيات، فقد بلغ عدد المجاميع الشعرية، التي صدرت، منذ بداية العقد التسعيني، إلى حدود سنة2011، كما هو وارد في كتاب (شعرية القصيدة الزجلية المغربية الحديثة)، للباحث محمد بوستة، أكثر من 280 ديوانا. هذه الغزارة في الإنتاج، تثبتُ حقيقة واحدة، فحواها أن الشعراء الزجالين، لهذه المرحلة، قد آمنوا بضرورة نقل الزجل من الشفاهي إلى الكتابي، أقصد التدوين (أفكر هنا في تجربة الكنانش)، وكذا الطباعة الحديثة. ومن بين الأسماء، التي كان لها حضورٌ متميز، في هذه المرحلة، كما ونوعا، نذكر أحمد المسيح، إدريس المسناوي، مراد القادري، رضوان أفندي، عزيز بنسعد، إدريس بلعطار، محمد الراشق، بوعزة الصنعاوي، عبد الرحيم باطما وآخرين، علما أننا نسجل، ها هنا ملاحظة هامة ونحسبها علامة فارقة في تاريخ الزجل المغربي، ألا وهي اقتحام المرأة لهذا المجال الإبداعي، الذي ظل حكرا على الرجل والفحولة سنين طويلة إن لم نقل قرونا، الشيء الذي جعل القصيدة الزجلية تسعدُ برئة أخرى للتنفس، وتفتحُ أفقا آخر في مضايق الشعر العامي خاصة والشعر المغربي عامة. نسوق ها هنا بعض الأسماء لشواعر أثبتن بحق أنهن قادرات على مجاراة ومنافسة الرجل في هذا الرافد الشعري، بل الأكثر من ذلك أنهن اهتبلن الفرصة لإصدار مجاميع شعرية في وقت مبكر جدا: الشاعرة المرحومة فاطمة شبشوب (ديوان طبيق الورد)، نعيمة الحمداوي (ديوان عش الخاوة) وبالمناسبة كانت أول امرأة في المغرب تحصل على الجائزة الوطنية للزجل، ثم نهاد بنعكيدا (وديوانها علاش حرشتي لحزن؟ 1998) بل إنها أصدرت أول شريط صوتي للزجل المغربي بعنوان"ها وجهي ها وجهك سنة 2003، وعطفا زهور الزرييق (ديوان مجنون هشومة 2006)… ولقد تأطر هؤلاء الشعراء، في إطار مؤسسي رسمي، ظهر بتاريخ 24 أبريل 1996 م، تحت اسم "الرابطة المغربية للزجل". إلا أن هذه التجربة، سيكون مآلها الموت، بعد تجميد أعمالها لمدة ست سنوات، حيث سيعقبها إطارٌ مؤسسي آخر، منذ 12 أبريل 2011، تحت اسم "الاتحاد المغربي للزجل". هذه الانعطافة، من حيث الكم والكيف، ستكلل بتنظيم مجموعة من المهرجانات واللقاءات، على غرار مهرجان الزجل، الذي نظمته بلدية مكناس سنوات 1990،و1991، و1993، بتعاون مع اتحاد كتاب المغرب، وكذلك المهرجان الأول للزجل، الذي نظمته الرابطة المغربية للزجل سنة 1997م بتيفلت، فضلا عن المهرجان الوطني للزجل، الذي دأبت وزارة الثقافة المغربية، على تنظيمه بشكل منتظم بمدينة ابن سليمان منذ 2006م. هذه المكتسبات وغيرها، ما كان لها أن تتحقق، لولا إصرار الشعراء، على النضال، إبداعيا وميدانيا، من أجل كسب رهان الاعتراف. وبالمقابل، لم تكن الفعالية النقدية، في مستوى هكذا تراكم، بحيث ظل الناقد المتخصص، في أغلب الأحيان، يتبرم من هذا المنجز الشعري، بنية مبطنة، تخفي تخوفا شديدا، من المغامرة والمخاطرة، في الخوض في تجربة غير مضمونة. وحتى المواكبات النقدية، التي حاولت أن تلامس هذه التجربة، على قلتها، تميزت بالسطحية تارة، وبإسقاط أحكام جاهزة على النصوص تارة ثانية، وبالمماثلة بين الزجل والشعر المُعرب تارة ثالثة. اللّهم إذا استثنينا بعض الدراسات الأكاديمية، التي لا تتجاوز، حسب علمي، أصابع اليد الواحدة، كدراسة الشاعر مراد القادري (وهي في الأصل عبارة عن أطروحة لنيل الدكتوراه، حول الشاعر أحمد المسيح)، ثم دراسة الباحث محمد بوستة (وهي عبارة عن بحث في ماستر علم النص وتحليل الخطاب، حول تجربة الشاعر إدريس أمغار المسناوي)، مثلما هو الحال لكتاب الباحث محمد داني، حول نفس الشاعر. وإني لأجدُ في محاولات الشاعر إدريس أمغار المسناوي النقدية، إذ حاول في بعض المناسبات قراءة بعض التجارب النقدية متوسّلا في ذلك بلغة الزجل، قلت إني أجد في هذه المحاولات رغبة منه في فتح أفق جديد للنقد المغربي المواكب للقصيدة الزجلية. ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع هذه التجربة التي لا تزال جنينية وتحتاج لسند تنظيري وتراكم كمي، فإن لها سبق المغامرة والتجريب ولها حسناتُ الجرأة. فما أحوجنا اليوم، إلى آليات نقدية جديدة ، لتحليل هذا الخطاب الشعري الجديد، آليات في مكنتها القدرة على الإنصات للنص الزجلي، ولما يقوله، كما في حوزتها، وهذا هو الأهم، القدرة على تأسيس وعي نقدي جديد، يأخذ بعين الاعتبار خصوصية النص الزجلي، وعي نقدي قادر على اجتراح القصيدة الزجلية، بدون أعطاب، وقادر على الولوج إلى التجاويف الداخلية، والطبقات السفلى لها. وفي ثنيات هذا الاحتياج يتبدى لي سؤال يتفرع إلى فروع سامقة وجاحظة. هل المناهج النقدية المتاحة الآن، وقد باتت على سوم في سوق النقد العربي قادرة على التغلغل في تضاعيف النص الزجلي بروحه الشفاهية، أم أننا في حاجة لأصول نقدية خارجة من تربة الزجل المغربي وإن غاب عنها الانضباط المنهاجي، أم أننا نفتقرُ إلى ثوب وإبرة، كما يقول أحدهم، لنخيط للقصيدة الزجلية المغربية لباسا نقديا أصيلا؟ تلكم بعض الملاحظات والإشكالات التي ما فتئت تتقلّبُ في أعطاف الراهن الشعري الزجلي المرتهن بالمستقبل في بلادنا. محمد الديهاجي