لِبودلير حَيواناتُه الشعرية. حَيواناتٌ قليلةٌ لكنها ناصعةَ الحُضور في ليل العالم. كثيرا ما اِستلهمَ بودلير نبضَ هذه الحيوانات ورَمزيَّتَها الخاصة في بناء عوالمه الشعرية، التي شكَّلتْ واحِدة مِن أعظم مَنارات القرن التاسع عشر. إنَّ مُؤسِّس الحداثة الشِّعرية الغربية وَجدَ إغراءً شِعريا مُلهِما، في توظيف أليغوري لحيواناتٍ بعَينها، انتقاها من فضائها الطبيعي، وأطلقَها في فضاء الخيال الأدبي الباني لِلمعنى الخاص والمُختلف. ليسَ الأمرُ اِختِراعا بودليريا حقيقة، لكن بودلير بثَّ في حيواناتِه وحْيَه الشعري الخاص، على نحو جعَلَها تنفصِلُ عَن نموذج لافونتين بنيةً وأفقا ومَعنى، بذاتِ القوة الذي تنفصِل فيه عن تاريخ هذه المُمارسة في الثقافة الإنسانية. لقد فتحَ بودلير، في شعره، أبوابَ البر والبحر والسماء، فامتزجتْ استعاراتُه بزرقة غريبة، وتَضوَّعتْ بعُطور مُدوِّخة، وانبعثَ من وِهادها رفيفُ أجنحةٍ مُتجاوِزةٍ للمُستحيل الإيكاري. في قصائد بودلير تموءُ قططٌ شبقية، وتصطفُّ طيورُ البُومِ ثابتة، مُخترِقة بتأملها وتفكيرِها وعُيونِها الحُمر ظلمات "الساعة الكئيبة"، فيما يَقف طائرُ التم بمنقاره المَفتوح قرب "ساقية بلا ماء"، غامِسا جناحَيه بعصبية في "الغبار". أما طائرُ القطرس فلا يَكتفي حضورُه بوميضٍ رمزيٍّ يلمَعُ في ليل المَنفى، بل يَحتل كافة المشهد الشعري، على نحو يُصبحُ معه أليغوريا كاملة للمنفى الذاتي للشاعر. الانسانيُّ يُشع بقوة في حيوانات بودلير، يَختلج بقوة في الظلال المُترتبة عن حَركتِها الاِستعارية، فاتِحا في جوف الكلمات أصداء الطبيعة المُوغلة في القِدم، التي توقظُ الحُلم، وتجعله يلتمسُ طريقَه ومراقدَه بأوكار المدينة وأضوائها الواهنة. فردوس بودلير ضاجٌّ بالعُزلة والمَشاعِر الكابية. وحتّى يُصبِحَ هذا الفردوس إنسانيا، لم يَكتفِ الشاعرُ بالمُؤثرات المِزاجية الخاصة (الخمر مثلا)، بل انتزعَ مِن مملكة الطبيعة كائناتِه الخاصة، وجعلَها تقتسم معه حُلكة الوجود، في نوع مِن الجدل الشعري المُضيء. شيئا فشيئا، تحررتْ تلك الكائنات من سَمتِها الطبيعي، واندمجت في مصير شعري، تعيشُ عبره حياتها الأخرى، التي تَخلَّقت من نطفة الشاعر. وغير خاف أنها نطفةٌ وجودية، اِستقطرَتْها دياجيرُ الحياة والفن والأساطير والمدينة من صُلب الشاعر، لِتودِعَها بقلب كلمات توّاقة للنهوض جديدة مِن رقدة المعاجم ورتابة الاستعمال. بهذا النوع من التغريب، أتاحَ الشاعرُ لكلماته مغامرة الاشتباك مع كائناتٍ طبيعية، أصبحتْ مُؤتَمَنة على مَعنى إنسانيٍّ يَمكث في الأرض. في قصيدة "القطرس" يشتَدُّ التعارُض بين "بحارة السفينة" وبين هذا الطائر البحري الكبير. بين ملكوت السماء وسطح السفينة الضيِّق. بين الجمال النقي المُحلِّق والقُبح المُستشري الماكِثِ في السطح. "ملكُ الجَوِّ" و"رفيقُ السَّفَر" الذي يَقطعُ أميالَ الزرقة وراءَ السُّفُن المنزلقة على اللجج المالحة، يَجِدُ نفسه، فجأة، على سطح سفينةٍ، طائرا مَعتوها، مُكبَّلا بجناحين كبيرين، يجعلانه عُرضة لِهُزء وسُخرية بحَّارةٍ يَبحثون عن التسلية. أميرُ الأجواء الأبيض، يُحَوِّلُه قَدَرُه الشخصي إلى مُهرِّج يَصرفُ الضجرَ عن قلوب بحّارة أوغادٍ وقساةٍ. الأجنحةُ البيضاء الكبيرة، التي كانتْ تجعلُ الطائرَ مَلِكا حقيقيًّا للفضاء، أصبحتْ الآن تقيِّدُ حركته، فتتَجَرْجَرُ وراءَهُ، مثل مجدافين، في حركة بطيئة، متردِّدَةٍ، باعثة على الشفقة، ومنذرة بالموت. بودلير يَلتقطُ حركاتِ هذا الطائر، في تعارُض مع سُلوك البحّارة. نبلُ المَسعى وبياضُ الطوية يُناقضُ العَنت وسوءَ النية. المأساويُّ أكثر في هذه الحركة، أن الطائر لم يَعثر في مُطارَدته للسفينة إلا على سجنه الشخصي، مع ما استتبعه من تحول ومسخ رمزيين: الأميرُ الأبيض الجليلُ أصبحَ مُجرَّد بهلوانٍ مَنبوذ وأخرق، أسِرَته أنانيةُ الإنسان الذي يَسعى نحو مُتعته الخاصة، على حساب أرواح الكائنات النقية وحُريَّتِها. قَطْعُ مِئاتِ الأميال البَحرية وراءَ سُفن البحّارة، يُترجمُ، إذن، سَعيا حثيثا ومأساويا نحو قدَرٍ تجرَّدَ فيه هذا الطائرُ من مَزاياه المَلكية النبيلة، ليأخذ، على ظهر السفينة، سمتَ شحاذٍ يتعثرُ في ذيول الذل والخيبة. إن المأساوي في هذا المسعى هو أنه خطٌّ مُلْتَهِبٌ مَرسوم في تضاعيف الغيب، على نحو لا يُمكِن تفاديه، ولا التأفف منه. إنها إليغوريا الشاعر الذي يَستسِلم لمنفاه الأرضيِّ، مُتحمِّلا في صَمْتٍ وتصميمٍ نظراتِ الهُزء وحَركات السخرية. الشاعرُ، في تصَوُّر بودلير، هو ذلك القطرس الهائل الذي يجوب الأجواء العالية، مُتحديا العاصفة والرُّماة، لِيتعثرَ بِأجنحته الكبيرة البيضاء على الأرض . ما يُحرِّرُ الجَسدَ والروحَ عند الصعود هو ذاته ما يُقيّدُهما عند النزول بين الناس. الأرضُ منفى الشاعر، يَستسلِمُ له كخطٍّ مُلتَهب لا مجال للانفكاك من قَدريته الصارمة. بعد الرِّحلة والسَّفر الِاستثنائيين، يَأتي حينُ النزول بهِبات الجَمال النقي على الأرض. هِباتُ السماء يُساءُ تقديرُها وفهمُها، فينوءُ الشاعِرُ بِحَملِها، وهو يَنتقِلُ مِن مكان لِآخر في منفاه الأرضيِّ المُتجدِّد، مُتحمِّلا مأساته الشخصية، التي تبدو بلا خلاص. نبيل منصر