إن كان هناك من منهزم في انتخابات الرابع من شتنبر، فهو تلك الأطروحات التي راهنت على أن الإنتخابات الجماعية والجهوية ستكون مناسبة لإغلاق القوس الذي فتحه ما عرف سنة 2011 ب «الربيع العربي» في المغرب. وإن كان ممكنا الحديث عن الفائز الأكبر في هذه الإنتخابات فهو هذه الديمقراطية المغربية الناشئة التي تبني نفسها يوما بعد آخر في محيط إقليمي اختار فيه كثيرون أن يؤجلوا مطالب الديمقراطية إلى حين تحقيق إكراهات «الأمن أولا». مجرد أن تجري الإنتخابات في المغرب في هذا التوقيت الذي تهتز فيه بلدان ما بعد «الربيع العربي» على وقع العمليات الإرهابية وأحداث العنف السياسي الدموي، هو إنجاز في حد ذاته، لقد كنا طيلة فترة الحملة الإنتخابية ويوم الإقتراع أمام ذاك الدرس البليغ : إن تحقيق الأمن هو رافعة جوهرية لبناء الديمقراطية، وفي مغرب الآن وهنا، يمكن للأمن والديمقراطية أن يسيرا جنبا إلي جنب في بلد يؤكد من جديد أنه استثناء في تفرد تجربته السياسية، ولمعان طموحاته الديمقراطية. لقد كانت نسبة المشاركة في وحدها استفتاء جديدا حول هذه الديمقراطية المغربية الناشئة، وعلى العكس مما دعا إليه تحالف الرجعية الدينية والعدمية اليسراوية، اختار الغاربة أن يقولوا ، وبقوة، «لا » لمقاطعة المشاركة الديمقراطية، ولا للمشاريع السياسية المغامرة باستقرار الوطن و المقامرة بمستقبله. وعلى أي حال فإن بلوغ 53،67 كنسبة مشاركة هو تأكيد جديد على أن لهذه الديمقراطية المغربية قاعدتها الاجتماعية وداعموها في أوساط الشعب، والأهم من وذلك، لديها أولئك الذين يثقون في جديتها ومصداقيتها، رغم كل خطابات التيئيس المقصود، ومع كل ما قد يحدث من كبوات هنا أو هناك. ومثلما كانت نسبة المشاركة على الصعيد الوطني دليلا على متانة القاعدة الجماهيرية لمشروع الديمقراطية المغربية، كانت الأرقام القياسية لنسب التصويت في الأقاليم الجنوبية شكلا من أشكال الإسفتاء على الجهوية المتقدمة التي قدمها المغرب كجواب وطني على انحسار النقاش الأممي حول مقترح الحكم الذاتي في أروقة الأممالمتحدة. ومن دون مبالغة في التحليل أو مجازفة في الخلاصات يمكن التأكيد أن «استفتاء» الجهوية في الصحراء، أربك من جديد حسابات المشروع الجزائري الإنفصالي في الصحراء، مثلما شل حركة ما يعرف بانفصاليي الداخل الذين ظهر أنهم لا يشكلون تيارا في الميدان قادر على التعبئة ضد اندماج الصحراء في مجموع نظامنا السياسي الوطني. أجل، كان اقتراع الرابع من شتنبر انتصارا مغربيا على كل الواجهات، وليس أقلها أهمية تلك المصداقية والنزاهة التي اتسم بها الإقتراع الجماعي والجهوي رغم بعض الخروقات التي تم تسجيلها بشكل معزول ودون أن يكون لها تأثير مباشر على روح النتائج، وفي الوقت الذي روج فيه كثيرون إلى أن السلطات العمومية ستتأخر في الإعلان عن النتائج في تلميح ملغوم إلي نوايا التحكم في مفاجآتها، كان الإسراع بالإعلان عن أولى إفرازات الصناديق بمجرد إغلاق مكاتب التصويت، دليلا آخر على أن مكسب النزاهة لا رجعة فيه، وأن خيار احترام إرادة الناخبين خط أحمر غير مسموح لأي كان بالتلاعب بقدسيته، وفي نهاية المطاف كان المغاربة أمام لحظة تأكدوا فيها من أنه حين يعطي ملك البلاد ضماناته بأن الإنتخابات ستكون نزيهة، يكونون بالفعل أمام صدق رجل و التزام رئيس دولة. وفي هذه اللحظة بالذات انهارت أماني أولئك الذين روجوا سلفا أن ترتيبات الكواليس تسير في اتجاه صناعة خارطة سياسية متحكم فيها، كما تلاشت نبوءات «الثوريين» المؤلفة وساوسهم بأن قوس «الربيع العربي» حان موعد إغلاقه في المغرب. لقد حقق حزب العدالة والتنمية نتائج باهرة في هذه الإنتخابات باكتساحه للحواضر الكبرى وتصدره لنتائج الإنتخابات الجهوية ، بل واحتلاله الرتبة الأولى في أربع جهات على الأقل، وإن كان لذلك من دلالة غير اللياقة الإنتخابية للحزب، فلن تكون سوى أن تحرير اللعبة السياسية في المغرب ليست فيه ارتدادات إلي الخلف، وأن الديمقراطية المغربية لاتخضع لحسابات محيطها الإقليمي حيث تحول الإسلاميون إلى مصدر قلق وتهديد ألقى بهم إلي الهامش السياسي أو السجون أو أثون الإهاب في أكثر من قطر إسلامي.. لقد أبانت التنافسية الشرسة لاقتراع الرابع شتنبر ، وتطابق ما في الصناديق مع ما هو معلن من نتائج احتفت بحزب العدالة والتنمية ، عن أن ما يتحكم في اللعبة السياسية في مغرب اليوم هو مدى انضباط الفاعلين فيها لالتزامات الوطن والقانون، وماداموا حريصين على الإنتماء لبلدهم قبل أي ولاء آخر، وفي حين تتطابق الأفعال مع ما يتم التصريح به من مراجعات إيديولوجية وعقائدية، تفتح ديمقراطية المغرب أحضانها لجميع أبنائها، ويكون الفيصل في أفضلية الواحد منهم على الآخر لصناديق الإقتراع وليس لغيرها. ولما نقول بأن كتسبات اقتراع الرابع من شتنبر لا حدود لها، فلأنها كذلك بالفعل والقوة، ألم ننه واحدا من آخر أسباب التوثر في حقلنا الحزبي بالحسم الديمقراطي بين حزبي «العدالة والتنمية» و«الأصالة والمعاصرة»؟. لقد احتل «البام» الرتبة الأولى في الجماعات ولم يطعن فيها إخوان عبد الإله ابن كيران ، وتصدر العدالة والتنمية الإنتخابات الجهوية دون أن يشكك في نتائجها أصدقاء مصطفى بكوري، إنها إذن تلك اللحظة الكبرى للإعتراف المتبادل بالمشروعية السياسية والإنتخابية لكل طرف، وتلك القنطرة التي نعبر فيها إلى ضفاف التعايش بين حزبين يظهر أنهما سيشكلان قطبا الرحى في حياتنا السياسية خلال السنوات العشر المقبلة على الأقل.