حدث هذا في تمّوز من سنة مجهولة بالتقويم الهجري.. تشبثت بالصمت و آثرت عدم الانحياز و أنا بعيد عن حمى اللجاج بين أخي الأصغر و جدي متفرجا على هذه الزوبعة حتى لا أخسر ود جدي و حبه الكبير لي. قال جدي في إحدى الصباحات الكئيبة و هو يقطب جبينه في رباطة جاش : – تلك الطيور الهاجمة أضرت بمحصولنا وغللنا كثيرا.. لذا قررنا نصب فزاعة وسط الحقل تخويفا لها و طردا.. انتفض أخي و هو يلوح بسبابته بعدما انتصب واقفا : – قل يا جدي قررت و ليس قررنا..هذا قرار فردي وليس جماعيا..لا تتكلم بالوكالة.. خاب أملك يا جدي.. الفزاعة فقدت هيبتها في هذا الزمان..إن زمن الفزاعات قد ولى…. لقد فقدت الفزاعات وظيفتها.فمتى كانت الفزاعات حماة للبلاد والعباد؟؟. . كان الهواء المشبع برائحة البراري يتحرك وئيدا مثل حلزون مريض ليدفع السنابل المائلة الى الصفرة الذهبية مثل جدائل اندلسية فاتنة إلى التهامس مع بعضها البعض.. بينما أسراب الطيور الجائعة آتية من جهة الشمال تغزو حقولنا ..كان جدي لازال غارقا في جداله العقيم مع أخي.. فتذكرت بأننا نحن ،العرب، ظاهرة صوتية كما قال لي أستاذي ذات يوم شتائي غاضب وهو يعب من كأسه مثنى وثلاث. تحركت شفتا جدي الممطوتان بقوة محاولا إقناع أخي بمشروعه عبر الرفع من صوته وليس الرفع من مستوى كلماته ليجمع الحروف المتبعثرة في حلقه و هو قد امتلأ غضبا: – ما هذه الرعونة ما هذه الجسارة……اللي فاتك بليلة فاتك بحيلة..قلت لك سننصب فزاعة سننصب فزاعة… وما أريكم إالا ما أرى.. وما الحكم إلا من عندي. من أنتم؟؟؟…صدق الله العظيم… كانت الشمس متشحة بضباب اول الصباح واقفة و راء أحد التلال الناتئة وكأنها تختلس النظر للتفرج على هذه المساجلة دون أن تفصل المقال في ما بين جدي و أخي من جدال….. كما كنت أنا أريد أن أقول له بأن الغباء كل الغباء هو فعل نفس الشيء مرتين وبنفس الأسلوب ونفس الخطوات وانتظار نتائج مختلفة…. كنت على وشك التعبير عن رأيي هذا لكني تراجعت.. رد أخي موضحا : – – يا جدي لقد اكتشفت الطيور سر لعبتكم هذه لتكراركم لها.. الفزاعة اختراع قديم.. وطيور القرن الاول للهجرة ليس هي طيور العولمة والانترنيت و طائراتf16. عليك يا جدي أن تتكيف مع الظروف ولا تصر على رأيك..إنك لا يمكن أن تستحم في النهر مرتين.. فتجديد الأدوات فرض عين لا فرض كفاية… تملكتني رغبة في الضحك فخفت من سخط جدي فاكتفيت بالتأمين على كلام أخي بحركة برأسي .اخي يتكلم بمفردات ومفاهيم ليس بينها وبين جدي سوى الخير والإحسان..كان جدي يغرس نظراته الحادة في وجه أخي حين كان يشرح له وشفتاه لا تتوقفان على التحرك اللاإرادي.. كان الغضب يتطاير من عينيه الواهنتين متجاهلا كل ما يقول أخي..بل كان لا يرغب في الاستماع إليه أصلا.. – قلة لحيا صافي …الفزاعة هي الفزاعة…خرجت عليكم الفلسفة.. قالها جدي وقد ركب رأسه العناد وهو يتمتم حنقا و غضبا كبركان أزفت ساعة ميلاده.. وسط الحقل نصب جدي الفزاعة بعدما سربلها سرواله ومعطفه وطاقيته دون علم جدتي التي تفزعه في المنزل… كانت الفزاعة تبدو كتمثال بليد لزعيم عربي مصاب بداء الغرور ولوثة التباهي .كانت الرياح تحركها ميمنة وميسرة… على هامش الحقل قرفص جدي وتحلقنا حوله في لحظة ران فيها الصمت على المكان.. استفاقت العيون على جيوش أخرى من الطيور تتقاطر على الحقل، وعلى أخي مستلقيا على قفاه من شدة الضحك.. واكتفيت أنا بتشييع جدي بنظرات حزينة على دوغمائيته الزائدة … بينما الطيور الزاحفة من الشمال ارتفعت ترانيمها من على ذراعي الفزاعة لبطنتنها وأخرى اتخذت من قنتها برجا لمراقبة جدي خدمة لصقور أخرى قد تأتي لإحتلال ما تبقى من البلاد…. حسن الخطيبي – والماس – المغرب