تميزت الجلسة الثالثة من ندوة "الإعلام العربي في عصر الإعلام الرقمي" مساء الثلاثاء بمركز الحسن الثاني للملتقيات الدولية، بتقديم تجارب متنوعة من تونس ومصر والمغرب. وقد قام بتنشيط اللقاء الدكتور فهد العرابي الحارثي، رئيس مركز أسبار للدراسات والبحوث والإعلام بالسعودية، حيث ركز في ورقته التقديمية على حقيقة يتناساها أنصار الصحافة الورقية كما يتفاداها المدافعون عن الإعلام الرقمي، وهي أنه لا وسيط يلغي الآخر، بل كل وسيط جديد يدفع الناس إلى تغيير طريقة التعاطي مع سابقه، وضرب مثلا بالإذاعة التي صارت اليوم هي الأكثر استعمالا في السيارات، رغم ما قيل عن موتها لدى ظهور التلفزيون. التجربة المصرية عرضت بعض خطوطها العريضة هبة أمين أحمد شاهين، مديرة المركز الإعلامي وأستاذة الإعلام بجامعة عين شمس. واستندت على بحث تطبيقي عنونته ب"استخدامات الجمهور المصري للصحافة الإلكترونية"، حيث أوضحت أن هذه الأخيرة ظهرت في مستهل التسعينيات واستطاعت مع مرور الوقت أن تتفوق على الصحافة الورقية بفعل قدرتها على التفاعل وتحديث المواد والأخبار على مدار الساعة. وشمل البحث 400 مفردة من البالغين، تتراوح أعمارهم ما بين 18 سنة و60 سنة. وقد قسمت الدراسة الجمهور المستجوب إلى ثلاث فئات، مثل فيها الإعلام الإلكتروني 40 في المائة على مستوى الاستعمال، والصحافة الورقية 31 في المائة، فيما بلغت نسبة المزاوجة بين النوعين 29 في المائة. وكان معدل قراءة الأخبار بالدرجة الأولى، الذي يجمع الفئات الثلاث، هو نصف ساعة في اليوم. كما سجل البحث تفوق الصحافة الخاصة على نظيرتها الرسمية من حيث الإقبال. وصادق 78 في المائة من المبحوثين على فكرة تأثير الإعلام الرقمي على مستقبل الصحافة الورقية، فيما نفى 21 في المائة منهم ذلك. كما سجلت الدراسة أن النسبة الأكبر من قراء الصحافة الورقية هم من المسنين فيما يقبل أغلب الشباب المستجوبين على الإعلام الإلكتروني، مما دفع الباحثة إلى استنتاج أن رحيل جيل من الكهول والشيوخ المتعاملين مع الصحافة الورقية يؤشر على انحسارها بشكل أكبر. بيد أنها رأت أيضا أن المستقبل سيكون للاندماج بين كل الوسائط كما بدأ العمل به ببعض الدول المتقدمة. التجربة المغربية دافع عنها الزميلان يوسف ججيلي مدير نشر "le360" و المختار لغزيوي، مدير نشر جريدة الأحداث المغربية وموقع "أحداث أنفو". ججيلي توقف عند الخصوصية امغربية ودافع بشراسة عن تقدمها مقارنة مع الآخرينو وأعطى أمثلة على هذا التقدم من خلال تطرق وسائل الإعلام في المغرب لمواضيع لا تتطق لها في دول عربية أخرى مشيرا إلى أن الانتماء الشرعي للصحافة التقليدية يفرض الاعتراف بأفضالها على التوطر الحاصل اليوم في المشهد الإعلامي ككل، وضمنه الرقمي بطبيعة الحال. أما المختار لغزيوي فقد تطرق في البداية هو الآخر إلى الخصوصية المغربية التي جعلت العبور من الصحافة الورقية إلى نظيرتها الإلكترونية يتم بكل يسر وسلاسة ودونما تشنج كما هو حال بعض التجارب المشرقية والخليجية، التي رأت في النوعين تناقضا وتصادما. وهي ذات الخصوصية المسجلة في مسألة الانتقال السياسي وتوسيع هوامش الحرية، حيث لم ينتظر المغرب حتى مجيء الربيع العربي. وانتقد لغزيوي أنصار الإعلام الرقمي في ممارستهم لنوع من السادية حين حديثهم عن الورقي، مبرزا أنه ليس من المقبول تصفية الحسابات مع الصحافة الورقية التي تحتفظ بتفوقها من جهة أنها تشكل مصدرا موثوقا يتمتع بكامل المصداقية. وتساءل عن الأسباب الحقيقية الكامنة خلف هذه الهجمة القاسية على مصدر لم يزل يحتفظ بنوع من الهالة القدسية، ليخلص إلى أن غياب المصداقية والموثوقية اللذين تعاني منهما بحدة الصحافة الإلكترونية يقفان خلف هذا العداء. وتطرق المختار لغزيوي إلى بعض مثالب الإعلام الرقمي، حيث اعتبر أن من يمارسه عليه أن يكون جاهلا، وأن يرتكب كل الأخطاء الشنيعة في حق اللغة العربية، وألا تكون له أي مصادر ينهل منها أخباره أو يتحقق منها. وتساءل كيف يعقل لهؤلاء الذين لم يتجاوزوا عتبة استهلاك هذه الوسائط الغربية أن يتبجحوا ويركبهم الغرور، وماذا تركوا لستيفان جوبز ليقول. ولم يفته في الأخير التأكيد على ألا تناقض بين الورقي والإلكتروني وأننا في حقيقة الأمر لا نملك لحد الآن إعلاما جديدا يستحق فعلا هذا الإسم. التجربة التونسية بسط بعض معالمها مراد التائب، الصحافي المتخصص في الإعلام الرقمي وحقوق الإنسان، حيث تطرق إلى الارتباط العفوي اليوم بين وسائل الاتصال الرقمي والثورة التونسية في أذهان الناس، وهي جزء من الحقيقة على اعتبار أنه إبان الحراك الذي ساهمت فيه من جهة التنسيق بين الفاعلين شبكات التواصل الاجتماعي، كانت صور الثورة تبلغ إلى كل قنوات العالم انطلاقا من الهواتف الذكية في وقت كان يتعذر على الإعلام الداخلي والأجنبي أن ينشطا في البلاد. وذكر المتحدث التونسي أن ثمة سببا آخر هو كون نظام بنعلي قام بتغطية 80 في المائة من المجال التونسي بشبكة الأنترنت دون أن يدور بخلده أنها ستكون من عوامل الإطاحة به. وأنه من أصل أربعة ملايين مستخدم تونسي للشبكة العنكبوتية فإن 70 في المائة منهم لا تتعدى أعمارهم 35 سنة. بيد أن ثمة مؤشرات أخرى تنم عن حقائق مغايرة أوردها مراد التائب، أهمها أن الباحثين عن الخبر السياسي في الإعلام الرقمي لا تتجاوز نسبتهم 9 في المائة، حسب دراستين أنجزهما كل من معهد كارنيغي الأمريكي والاتحاد الأوروبي، فيم تبلغ نسبتهم في التلفزيون 36 في المائة وفي الصحافة المكتوبة 3 في المائة.