ينتظرن أول فرصة، لمحاكمة أمهاتهن حول إقصاء اعتبرنه ظالما. جرمهن واحد في نظر محيطهن. منهن من لم تنعم عليها السماء بهبة الجمال. ومنهن من كانت محل نقاش حول مفهوم الجمال كما تتصوره الأمهات. لم يقف الموضوع حد التصور، ليتطور الأمر إلى علاقات يغيب فيها توازن الأم، وحبها اللامشروط، ليحل مكانه سلوك مبني على حسابات مبهمة المعالم، ترمي بتداعياتها على نفسية البنات، لتعرف طريقها نحو العلن، أمام أبسط مواجهة. ركضت دون سابق إنذار نحو طفلتها، التي حبت غير بعيد عن المقعد الذي كانت تتقاسمه رفقة بعض النسوة، بحديقة الجامعة العربية بالبيضاء. «متخفيش عليها، راه مكاين لا طوبيسات لا طوموبيلات، غير خليها تلعب على راحتها»، تحاول إحدى السيدات طمئنة الأم الخائفة على صغيرتها. أمومة مهووسة بالجمال لم يكن تخوف السعدية نابعا من إحساس بمكروه سيلحق بابنتها، بفضاء الحديقة. كان للمرأة حسابات لا تخطر على بال الجالسات. «لا أود أن تخدش ركبتا ابنتي حتى لا ترافقها ندوب مدى الحياة»، كان ذاك تبرير السعدية، التي تبالغ في مراقبة ابنتها، لحد حرمانها من حقها في الحبو. يبدو للعيان أن المرأة عازمة على السيطرة لأبعد الحدود. لا تكترث كثيرا لتعليقات الغريبات الجالسات قربها، تستل سائلا مرطبا من حقيبتها، لتشرع في تنظيف كفي الصغيرة. فجأة تتعمق في مطالعة ملامح صغيرتها« ياك قلتلك ماتمشيش للتراب الخايبه»، تمازح السعدية طفلتها الوحيدة التي ترى فيها إنجازا، تشهره بوجه والدتها التي أقسمت يوما أنها لن تعرف طريقها نحو الزواج وتكوين أسرة، بسبب افتقادها لعملة الجمال. «في نهاية المطاف تزوجت وأنجبت» تقول السعدية وهي ترفع حاجبها الأيمن، بنبرة المتحدي، مع ضحكة عابرة انتهت بتنهيدة طويلة. المتعمق في ملامح السعدية، يلمح مسحة حزن تعلو ملامحها، يمكن أن تصاغ منها مادة خام لجمال متوسط، لكن شيئا ما يغلف ملامحها لتقنعك بما تعتقده هي عن نفسها. «عارفة ما فيا مايتشاف معندي ماندير هذا خلق الله»، عبارات تمارس بها السعدية مراسيم جلد الذات أمام العلن. لا ذنب لها فهذا كل ما علق في ذاكرتها، من كلمات والدتها التي قررت معاملة بناتها وفق قانون العرض والطلب. الأخت المتوسطة كانت أكثر حظوة، لأن عدد الخطاب كان كبيرا، وانتهى الأمر بالحصول على زوج لبناني، مما يعني إثارة غيظ المعارف والجيران، وكل الأعداء الموجودين والمفترضين في ذهن الأم. الأخت الصغرى، حازت ملامح إيطالية ليجزم الكل أنها صورة طبق الأصل من الأم أيام شبابها، لم يكن حلمها الزواج، لذا اختارت أن تكون مضيفة طيران. أما الأخت الكبرى فقد تزوجت في سن الخامسة عشر. وحدها السعدية صاحبة الترتيب الرابع بين سبعة إخوة، بقيت طويلا في حضن عائلتها، لتتذوق سادية والدتها، التي تفاضل بين أبنائها على أساس الجمال. «كانو كيعيطو عليا في الدار غير الدنجاله، كنت زايده عليهم وصافي»، تضحك السعدية لتغلف ألمها بشيء من الفكاهة، مثل جميع المتهربين من المواجهة. تتحدث عن « المكتاب» والأقدار، وكذا عن مايجب أن تكون عليه الأم. لا تتوانى عن رفع ابنتها صوب النساء لتسأل، «زعمه واش بالصح بالصح زوينة بلاما تنافقوني»، تجيبها النسوة بما تقر به عينها ويمتدحون ابنتها. «وعلاش الميمة كتقول عليك خويبة»، توجه السعدية خطابها لطفلتها، وهي ترميها في الهواء لتلتقطها بيديها، وكأنها تتخوف من أن تمارس الجدة نفس السيناريو على الأحفاد. أخرجت السعدية نفسها من حسابات الجمال الضيقة، ولم يعد يخطر على بالها حتى أن تناقش الفكرة، لينصب كل اهتمامها حول ابنتها. ليس من العسير أبدا، أن يلاحظ حتى أولئك البعيدون عن عالم التطفل، مدى الاهتمام التي تحظى به الصغيرة على يد السعدية، تنسيق مبالغ فيه على مستوى الألوان و الإكسسوارات، مع نظرات الأم التي تتأرجح ما بين طفلتها والمحيطين، كأنها تود انتزاع نظرة إعجاب، أو عبارة تودد للصغيرة. محاولات مستيمة تحاول من خلالها السعدية جذب ابنتها إلى عالم الجمال قبل الأوان. بعد أن أدركت بتجربتها المريرة داخل أسرتها، أنه جواز العبور لضمان مكان ما، وإن تعلق الأمر بمكان داخل قلب أقرب الأقربين. جينات الجمال على عكس السعدية، صوفيا نحتت قناعتها حول تقدير ذاتها، انطلاقا من قسوة المحيطين. « كنت كنتخيل ماما غادي تفيقنا شي صباح وتقول لينا البيضين يقفو هنا والسمرين يقفو لهيه...سبيطار صافي». تضحك صوفيا غير مكترثة لما اعتبرته شبيها بمعسكر البيض والسمر داخل البيت. والدة صوفيا المرأة الشقراء، التي اختزلت مفهوم الجمال في معطى بياض البشرة، لم تكن لتخفي ميلها الشديد لابنها البكر وابنتها الصغرى، اللذين ورثا جينات الجمال كما هو مترسخ في قناعتها. أما صوفيا فقد انحازت جيناتها للون والدها البرونزي. ما يجمع بين الأم وابنتها تبادل للتهم، يعقبه صمت اللاتوافق الذي يبقي الأشياء على حالها. «هي تحب أبنائها ولطالما رجحت كفتهم على كفتي. أعرف جيدا عدد المرات التي قبلتني فيها، بينما كان أبناؤها يستوطنون حضنها. حينما كنت أخطئ كنت أعاقب مباشرة، بينما كان مصير زلاتهم النسيان، وحتى في المرات التي يختلط عليها معرفة المذنب، تبادر بتصديق شهادتهم على حساب شهادتي». تصر صوفيا في كلامها، بأن لا تلفظ كلمة إخوتي، مكتفية بعبارة ” أولادها” وكأنهم مجرد أشياء تخص والدتها فقط. ما يزيد من حنق صوفيا، تملص والدتها من الاعتراف والاعتذار مما تعتبره حيفا. لكن والدتها تصر أن الأمر مجرد أوهام من نسج الخيال. رد فعل تعتبره صوفيا ظلما ثانيا ممارسا في حقها، « كتقول أني كنغير من ولادها وأني كنزيد فيه وصافي، في الأخير أنا اللي كنطلع خايبة ومامزياناش». تلخص صوفيا الموقف، دون أن ينال ذلك من تقديرها لذاتها، مؤكدة أن عبارات والدتها تضج بالتمييز، «مني كيخطأ شي واحد فيهم، كانت كتقول ليه علاش أولدي درتي هاد الشي، علاش أحبيبي، أما آنا كانت ديما كتقولي علاش المصيبة علاش الخايبة علاش أوجه الويل...» تستعرض صوفيا لائحة ” ألقابها الشرفية”، رغبة في تدعيم موقفها الذي ترى أنه غير قابل للتشكيك في خلفياته. إقصاء باسم الجمال إذا كانت صوفيا تتميز عن والدتها في لون البشرة، فإن سناء وكل أفراد أسرتها توحدهم بشرة متشابهة. لكن الأمر لم يعفي سناء من التفرد. حول بسيط لا يكاد يكون واضحا، إلا أمام عشاق التنقيب عن عيوب الناس، ومع ذلك تحمل لقب”الحوله”، مع أنف بارز. ما يؤلم سناء أن اللقب شق طريقه من البيت نحو المعارف. تنتهي إلى مسامعها عبارات المديح الموجه لشقيقاتها، ولبنات أعمامها الذين يقطنون بنفس المنزل، مما يجعلها تنطوي على نفسها داخل دائرة الإهمال. سوء تقدير للذات، يجعل الشابة تبالغ في الإنزواء. حتى ما يعتقده والدها مزاحا، ترى فيه مادة دسمة للسخرية، يتلقفها المحيطون بسوء نية. محبة الأب تجد تأويلا خاصا لدى سناء التي ترى المسألة من باب العطف لا أكثر. «كيعيطلي خيبوعه ديالي، واخه كيضحك أنا مكنبغيهاش»، رفض الأمر يفسره البعض بالمبالغة في رد الفعل. بينما تؤجج الأم الإحساس بالدونية، حين تعمل على تقريب باقي بناتها من خلال طلب مشورتهم في بعض الأمور، وكذا التفاخر بهن أمام الناس، مقابل إقصاء ترى سناء أنه متعمد. «مني واليديك ميعبروكش آش غادي تسنى من البراني». ذاك “البراني” الغريب الذي أصبحت سناء تخشاه، لتجلس صامتة في الظل كما علمتها والدتها التي تعودت التغني بذوق ابنتها الكبرى، بمبرر أن الجميل يميل لاختيار الأشاء الجميلة. أما الذميم فيكفي أن نهز له رؤوسنا تعاطفا، ثم نمحوا ما يقول. سكينة بنزين