"خالتي فرنسا"، ليس المقصود بها طبعا، طيبة الذكر عبلة كامل، التي جاءت هبلة رسمي بالكامل في دور بائعة المناديل في الفيلم الكوميدي المصري الذي يحمل نفس العنوان، لكن المراد هو الدولة الفرنسية حقيقة، و هي التي تحمل نعت الأم أو الخالة أو الدادة المرضعة أو الصديقة أو العشيقة أو الحزب، حسب موقع المتحدث، و ظرفية الحديث. فرنسا في علاقتها مع المغرب، تتأرجح بين اليمين و اليسار، و علاقتنا بفرنسا، منذ زمن، مرتبطة بمن يدخل قصر الاليزي، و هذا أمر سئ، و أتمنى شخصيا أن تكون الانتفاضة المغربية الأخيرة قد جاءت بوعي، و ليست فقط ردة فعل وقتية، سيعود معها المغرب الى نشر تلك الاشادات البليدة لأي مسؤول فرنسي عبر وكالة أنباءه الرسمية. لقد أوضحت الأزمة الأخيرة التي افتعلتها فرنسا، أن تلك التصريحات التي كان المسؤولون الفرنسيون بمختلف رتبهم يدلون بها عند زيارتهم للمغرب، و التي تنشرها سريعا و كالة المغرب العربي للأنباء بفرح طفولي مضحك، لا تساوي شيئا، و لا قيمة لها، ذلك أن فرنسا الدولة بكل مؤسساتها، لو كانت فعلا تقدر المغرب، و ترى فعلا أن مسيرته الديمقراطية واعدة، و أنه يحترم حقوق الانسان أكثر من أي دولة عربية أخرى، ما كانت لتعامل مسؤولا أمنيا ساميا، كان سببا في انقاذ أرواح مواطنين فرنسيين، كما أنقذ أرواح مواطنين مغاربة و أجانب داخل و خارج المغرب، بمهنية و ذكاء مشهود له بهما وطنيا و دوليا، كأي مجرم مبحوث عنه من طرف الأنتربول، أو كأي بارون مخدرات صلبة من أمريكا اللاتينية، أو كما لو أنه هو الذي يخطط لضرب فرنسا بعمل ارهابي وشيك. حقارة السلوك الفرنسي، كما تبريرها الغبي الوقح، المتمثل في استقلال السلط، لا يستقيم، ذلك أن استقلال السلط بعضها عن بعض، لا يعني أن يكون القضاء دولة داخل الدولة، و لا علاقة له بالسياسة العامة و مصالحها الاستراتيجية. لقد نشرت وسائل اعلام أمريكية مؤخرا، أن وكالة الاستخبارات الأمريكية استعملت وسائل تعذيب طيلة سنوات، فهل يعني هذا أن بامكان أي صاحب سوابق مجرم، أن يضع شكاية لدى القضاء الفرنسي، و سينتقل سبعة أو ثمانية من رجال الشرطة الفرنسيين لمقر السفير الأمريكي، فور ورود أخبار من جهاز غير قضائي، بوجود رئيس الاستخبارات الأمريكية لديه ?.. عيني !! كما يقول الفرنسيون بلغة موليير. التوتر المغربي الفرنسي الأخير، اذا أرادت الدولة المغربية أن تأخذه فرنسا على محمل الجد، يجب أن تنتهي من سياسة "التهويش"، لأن سوء الفهم مع فرنسا متواتر ومنذ زمن بعيد، و فرنسا لم تعر اهتماما لغضبات المغرب في الماضي، لأنه ينسى بمجرد أن يطبطب عليه مسؤول فرنسي بكلمات من قبيل: المغرب دولة مهمة في المغرب العربي و شمال أفريقيا.. أي جمل لا تعني شيئا في العمق. سياسة "التهويش"، نستشفها من مبادرة الوزير بلمختار زيارة مؤسسة تعليمية رفقة السفير البريطاني للاطلاع على تجربة المسالك الدولية للباكلوريا، و الحقيقة أنها تهديد مبطن لمكانة اللغة الفرنسية في التعليم المغربي، غير أن التعليم لا يجب أن يكون مجالا للمزايدة. أنا شخصيا مع المسالك الدولية، و أعتبر أكثر من هذا أن تعزيز مكانة اللغة الانجليزية في التعليم المغربي، يجب أن يكون خيارا مغربيا عاجلا بغض النظر عن عودة مياه العلاقات الفرنسية المغربية الى مجاريها من عدمها. اليوم أكثر من 70 في المائة من المعارف و العلوم و الاختراعات التكنولوجية، تصدر باللغة الانجليزية، فلماذا سينتظر المغرب حتى يتم ترجمة هذا الكنز الى الفرنسية ليستفيد ? خصوصا مع قدرة اللغة العربية الرائعة على التوالد دون الحاجة الى وجود لغة أخرى تلعب دور الوسيط. يجب بعث رسائل الى فرنسا، و مصارحتها بانها بصدد تبديد رصيدها في المغرب بكل غباء، و صحيح أن اللغة الفرنسية في التعليم جزء من هذا الرصيد، الا أنه جزء فقط. هناك الجانب الثقافي، وعدد المراكز الثقافية الفرنسية في المغرب ليس من قبيل الصدفة، أنا لدي أصدقاء من تونس و من الجزائر، و أقول أن المغاربة يستقبلون الثقافة الفرنسية بطريقة أفضل من أي شعب آخر من شعوب المغرب الكبير. الغباء الفرنسي على هذا المستوى واضح، ذلك أنه و دون أن تعمد الدولة المغربية على التضييق على هذه المراكز، و أنا ضد التضييق، سوف يكون موقف المغاربة من الثقافة الفرنسية اذا استمرت في عدائها لمصالح بلدهم، و في مسها برموزهم، و اذا أرادت أيضا اللعب بورقة وحدتهم الترابية، هو موقف العداء لكل معالم الثقافة الفرنسية، سواء كانت هناك مراكز لهذه الثقافة أو لم تكن، و هذا العداء سيتنامى بشكل سريع، و هذا تبديد لرصيد لا تقدره فرنسا حق قدره. هناك أيضا رصيد اقتصادي فرنسي في المغرب، و فرنسا لا تعي أنه حتى الجزائر بريعها البترولي، الذي اقترب خريفه على كل حال، لا تملك الامكانيات و الفرص الاقتصادية التي يوفرها المغرب اليوم بمشاريعه، و التي تبدأ بالكاد، و القادم أكثر مما أنجز. في فرنسا هناك ارث لثقافة سياسية كانت تعتبر أن الجزائر فقط لأنها جمهورية تستحق الوقوف الى جانبها، نحن نعرف اليوم أن الجزائر جمهورية موز، برئيس مقعد مشلول، و المملكة المغربية الرجعية، المخزنية، الفيودالية، القرسطوية، هي التي تتبنى القيم الجمهورية أكثر من أي دولة عربية جمهورية، من الماء الى الماء. أليس غريبا أن يرغب الرئيس الجزائري في أن يموت على عرشه/كرسيه المتحرك، في الوقت الذي يسير ملك المغرب بنظام بلده الى صفوف الملكيات البرلمانية ? أليس غريبا أن تكون مملكتنا "الرجعية"، هي صاحبة أكثر القوانين التقدمية في شمال أفريقيا و الشرق الأوسط، في السياسة، و الثقافة، و الاقتصاد، و الحقوق، و الحريات، رغم أن الطريق لازال طويلا ? أليس غريبا أن يتبنى المجتمع المغربي المحكوم بنظام "رجعي قرسطوي زمكاني ديني"، قيم الحرية، و الديمقراطية، و التعددية، و التسامح، و الحوار، و الانفتاح، أكثر من أي مجتمع عربي يعيش في جمهورية ? هذه أمور يجب على فرنسا، و على اليسار الفرنسي خصوصا، أن يفهمها و يستوعبها، حتى يقدر عظمة المغرب، و عظمة شعبه. طبعا، نحن نقدر فرنسا الأدب، و فرنسا الاعلان العالمي لحقوق الانسان، و فرنسا الأنوار و المتاحف والثقافة، لكننا لا نقدر فرنسا الاستعمار و الاستعلاء، و فرنسا العنصرية و الغباء. هناك أنباء عن زيارة وشيكة لفابيوس وزير الخارجية الفرنسي الى المغرب، و التي أوردت تقارير صحفية، أن ارثه اليساري الدوغمائي، هو سبب التوتر مع المغرب، و أن رهانه على الجزائر جزء من المشكل، لأنه رهان على حصان فاشل، فحبذا لو وشوش أحدهم في أذنه متسائلا : لماذا تبدد فرنسا رصيدها الثمين في المغرب بكل هذا الغباء، و خصوصا بهذا الأسلوب الردئ و الرخيص ?