مقصد التعريب ونية التخريب كثير من الناس يرجعون ما حل بالمنظومة التعليمية في المغرب من دمار شامل إلى سياسة التعريب. ويسارع بعضهم في نفس الجملة المفيدة، نادرا عن جهل وغالبا عن سوء نية مبيتة، إلى اتهام اللغة العربية بالتخلف والقصور والعجز عن مواكبة الركب الحضاري العلمي والتكنولوجي. من البديهي أن أصحاب الحل والعقد في الحقل التربوي لم يقتصدوا جهودهم في إجهاض جنين سياسة التعريب في البويضة؛ عندما ارتجلوا خطوطها العريضة بقليل من الاعتباطية والعشوائية وكثير من الإجرام وانعدام المسؤولية. كانت سياسة التعريب ولا زالت تفتقر إلى رؤية سليمة ومعالم واضحة. إذ كيف يعقل أن يعرب التعليم في مراحله الأولية بينما تفرض اللغة الفرنسية ذاتها على السلك الجامعي بكل شعبه وتخصصاته، حتى لم تكد تسلم من تسلطها إلا كلية الشريعة حيث تبيح الضرورات المحضورات وتقدر بقدرها...أما من يتهم لغة الضاد بقصور ذاتي وعجز داخلي يمنعانها من تدارك ما آلت إليه الشعوب العربية من تخلف عميق وشامل، مدعيا بأن لغة موليير هي المخرج، فيظهر بما لا يدع مجالا للشك أن الثقافة الفرنسية قد غسلت دماغه تماما. بعيدا عن كلام أثر الاستعمار وهيمنة ما بعد الاستعمار بمستوياتها الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والأدبية والفنية وخصوصا السيكولوجية، لا بد من التنبيه إلى أن إسهامات المراكز الثقافية الفرنسية في الحقل الثقافي المغربي يفوق ما تتصدق به وزارة الثقافة كما وكيفا بأضعاف مضاعفة. توجهات فرنسا الاستراتيجية في مستعمراتها القديمة-الجديدة ليست سرا من أسرار الكابالا، بل هي منظومة سياسات ممنهجة ذات منطق رياضي ورؤية جلية يعرف بها السيد جيدا ما ينتظره من العبد، ويكاد لا يكلف نفسه عناء إخفاء نواياه الإقطاعية عنه. ما فتئت فرنسا تدافع بطرق مباشرة وغير مباشرة عن تعدد اللغات واللهجات في المغرب وغير المغرب وتمدح قيمته الثقافية والحضارية المضافة، في الوقت الذي كانت تتهم فيه (فريدريك ميسترال) وحركة (فيليبريج) الداعية إلى إحياء اللغة الأوكسيتانية وثقافة بروفانس بالانفصالية والرجعية. كلنا نتذكر مبررات الظهير البربري وأسبابه الحقيقية. كلنا نتذكر كيف أقامت فرنسا الدنيا وأقعدتها عندما صادق البرلمان الجزائري على قانون التعريب في 28 دجنبر 1990، وحملتها الشعواء في اليوم التالي ضد التعريب في صحيفة Le Monde وراديو RFI وإذاعة ميدي 1 في طنجة؛ باعتبار الجزائر ثالث حصن تتقوى به اللغة الفرنسية بعد فرنسا المتروبولية ومقاطعة كيبك. من الطبيعي أن تروج فرنسا لسلعتها، لكن من غير المعقول أن نسلم رؤوسنا صاغرين راضخين للغسل بشامبوهات البروباغندا التي تحاول (لوريال باريس) بأن توهمونا بأننا (نستحقها). ليس قدر المغرب المحتوم أن يكون ضيعة فرنسية تجند فيها (ماريان) نخبة مرتزقة تدافع عن مصالحها الاستراتيجية. وليست اللغة الفرنسية ركنا من أركان الإسلام أو شرطا من شروط صحة الصلاة حتى يفرض علينا تعلمها وتداولها. في حين أنها لا ترقى إلى أن تكون حتى لغة أجنبية أولى، باعتراف الفرنسيين أنفسهم عندما يعودون لرشدهم ويقتدون بباقي دول العالم "الطبيعية" فيحررون وينشرون سواد وثائق المركز الوطني للبحث العلمي (CNRS) باللغة الإنجليزية. لا جدوى من تصديع الرؤوس بإسهامات العرب المعروفة في إثراء الحضارة الإنسانية وكيف طوعوا مفردات اللغة في الفلسفة والرياضيات والطب والصيدلة والفيزياء والكيمياء وغيرها. ولا حاجة للدفاع عن اللغة العربية ضد اتهامات مجانية تخفي نواياها الحقيقية. لكن لا بأس من الإشارة إلى نتائج الحركات النهضوية في الدول النامية في آسيا وأمريكا اللاتينية الداعية إلى محاربة الأمية محاربة حقيقية -بعيدا عن الشعبوية الواهية والبروباغندا الزائفة- لتجتثها من جذورها في فترة لا يتعدى معدلها خمس سنوات -لا أزيد من خمسة عقود، ومازال العد جاريا. ولابد من اجترار نموذج اليابان بإيديوغراماتها الفريدة ومثال إسرائيل بلغتها التي أحيتها من بعد موتها في أوراش ترجمة هرقلية بغية تطويع اللغة العتيقة لاستعمالات حديثة. ليست اللغة لمة حروف ومفردات وضبط تهجئة ونحو وتراكيب. اللغة منظومة متكاملة لإدراك ماهية الأشياء وتأسيس التفكير المنطقي، وحجر زاوي في بناء الهوية. قوة إرادة اللغة من إرادة قوة الشعوب. اللغة رياضة عنيفة وفن من فنون الحرب، بها تدافع الحضارات عن نفسها. (يتبع) http://gibraltarblues.blogspot.com