«لقد تخلينا عن الطبيعة وأردنا أن نلقنها درسا في حين هي التي وفقت في هدايتنا إلى بر الإيمان» مونتيني يقول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك «إن العقل الإنساني سيظل ينشد المزيد من المعرفة إلا أنه لن يبلغ في ذلك غايته النهائية» وهو ما حاول كارل بوبر أن يفسره، عندما بين لنا أن إنتاج المعرفة هو حلاقات تتوالى وبهذا ضمنت أجيال البشر المتعاقبة حقها الأبدي في إنتاج المعرفة، من خلال هذه العملية المستمرة لضرورة تحديثها وتصويبها . وهو الأمر الذي يمكن لنا أن نحيله إلى ما يعرف بخاصية “الانتظام الذاتي ” التي تتميز بها المعرفة شأنها في ذلك شأن كثير من الظواهر المعقدة المحكومة بإرادة الفعل الإنساني أو بمنطق القانون الطبيعي . المعرفة إذن هي ذات قوة دفع لتوليد معرفة جديدة، سواء بدافع الحاجة إليها لحل إشكاليات عجزت المعرفة القائمة على حلها، أو حثي بغير هذا الدافع، فما أكثرما ظهرت معارف جديدة لم تتضح قيمتها في حينها، وظهرت الحاجة إلى تطبيقها فيما بعد. وستظل المعرفة تتعطش إلى المزيد من المعرفة وستظل دوما في حاجة إلى ذلك لحل ألغازنا الاجتماعية والنفسية والاقتصادية و البيئية، وما أضيف عليها بفعل تكنولوجيا المعلومات من ألغاز أخرى إبستمولوجية وتربوية وثقافية وتكنولوجية . لقد فتحت الانترنيت علينا بوابات الفيضانات وتهاوت السدود أمام تيار المعلومات الجارف. لقد كانت المشكلة فيما مضى هي ندرة المعلومات أما الآن فأصبحت المشكلة هي إفراط المعلومات أو حمل المعلومات الزائدة . مجتمع المعرفة وليد التكنولوجيا، ولا مفر أمام الإنسان الحديث من مواجهة الانفجار التكنولوجي الأحادي التفاقم، الذي أضحت عملية ترويضه و احتوائه هي أقصى التحديات التي تواجه هذا الإنسان الحديث . والذي يلزمه في الوقت نفسه، أن يتخلص من وهمه القديم، أن بالعقل والمعرفة وحدهما، يمكنه أن يصنع عالما أفضل. وأن كل المشكلات قابلة للحل بمجرد أن نقوم بما يحتاج إليه من جهد، فسوف تبقى، يقول الكاتب العربي الدكتور نبيل على صاحب كتاب العقل ومجتمع المعرفة، هناك دوما مشكلات تستعصي على كل حل، و سوف يظل هناك قدر من اللا عقلانية يفلت منكل عقل . الإنسان المعاصر يعيش فصلا جديدا من ملحمته الأزلية فصلا مثيرا ومحيرا في آن واحد وذلك بعد أن كاد يصبح خصما لمعرفة هو صانعها، فهل يؤول به الأمر إلى أن يسلم روحه إلى شيطان معرفته . فالتقنية المحررة للإنسان يمكن أن تستعبده. العامل يمكنه أن يعبر و عن حق أنه أصبح عبدا للتقنية لما تفرض عليه هذه الأخيرة إيقاع والقيام بحركات متتالية في خدمة الآلة، لكن ليست التقنية هي التي استعبدته بل الطريقة التي تستعمل بها طرف المجتمع هي التي تحتقر الإنسان . التقدم العلمي هو تقدم لا معكوس، لكن لا مفر منه. فالمرور من تقنية إلى أخرى هو نتاج إرادة إنسانية وليس خضوعا إلى قدر محتوم . فالصينيون اكتشفوا البارود، لكنهم لم يكتشفوا معه المدفع بل اخترعوا الألعاب النارية . فبدل أن يحرر التقدم العلمي والتكنولوجي الإنسان من بعض الإكراهات ليجلب أكثر فأكثر أوقات فراغ تخصص للتبادل والتواصل الإنساني، وللبحث الذاتي والتقدم الأخلاقي، جعلت الدول الغربية الحالية التقدم العلمي والتكنولوجي في خدمة النجاح الاقتصادي، ونتيجة هذا الاختيار يقول المفكر الفرنسي ألبير جاكار هو تراجع فكري للأخلاق . شبكات التواصل والاقتصاد، أصبحت شركات ضخمة للتنميط كنتيجة لقبول المجتمع الدولي الآن لكانيزم اقتصادي مبني على التنافس. فالمطلوب من الإنسانية و بسرعة جعل الوسائل التقنية في مصلحة المحافظة على التنوع .ان ” تسليع ” كل شيء هو بمثابة الدود وسط الفاكهة بالنسبة للإنسانية الآن، يقول ألبير جاكار. تدمير الطبيعة، الوساطوية، النووي،” الترقيع” الجيني، علم “تحسين ” النسل ENGENISME والتولد المراقب ” PROCREATION ASSISTEE” هي أخطار جسيمة تهدد الإنسانية . فالنزعات النووية ممكن أن تقع غدا ووقوعها سيساهم في فناء البشرية جمعاء في أيام معدودة. عدم احترام البيئة يمكنه أن يجعل كوكبنا غير قابل للحياة في غصون قرون أو عشريات، وتكاثر وسائل الاتصال الغير المباشرة يمكن أن يفضي وفي ظرف وجيز إلى اختفاء طعم التبادل والتواصل بين الأشخاص . التجارب الجينية يمكنها أن تفضي إلى إنسانية ” مضبوطة ” NORMALISE أي إنسانية فاقدة للمحرك الحقيقي الذي هو التنوع بين الناس . أمام هذه الأخطار يقول ألبير جاكار، بأنه حان الوقت لتختار الإنسانية هدفا لمستقبلها. هذا الاختبار يجب أن يكون اختبارا ناتجا عن فعل جماعي ويتطلب ضرورة دمقرطة الأخلاقي . هناك تناقض يعيشه عصر التقنية و التقنية في خدمة التنافس، هو تعظيم التقنية و التنقيص من قيمة التقني . الترتيب بين العمل الذهني و اليدوي هو ترتيب بليد . فالإنسان يفكر بكامل جسمه و بعقلنا نستعمل أيادينا بمهارة . فمهارة أيدينا هي نتاج الذكاء الذي يقود مهارة أيادينا أو كما يقول ” أرسطو ” إ”الإنسان ليس أكثر ذكاءا من سائر الكائنات الحية المحيطة لان له يدين بل لأنه ذكي له يدين ” . لا أحد ينكر أن الاعتبارات اللأخلاقية لعبت دورا كبيرا في زوال العبودية ، لكن نهاية العبودية لعبت فيها التقنية دورا محررا.نعم التقنية محررة ومساهمة في التطور المادي للإنسانية،رغم أن عددا قليلا من سكان العالم هم المستفيدون ماديا منها والمستأثرون بجميع مزاياها . التقنية وكسائر الاكتشافات الإنسانية لها جوانبها الإيجابية والسلبية .يقول فرانسوا بيكون:” بالعلم يمكننا فعل كل شئ ” ، فيجيب إنشتاين :” بأن هناك أشياء لا يجب القيام بها ” ، ويضيف يجب أن نحصن تفاعلات النيترونات بالحس السليم . التكنولوجيا مزيج النعم والنقم ، وليس هناك بديل سوى المجازفة المحسوبة ، بقدر الإمكان من خلال أقصى درجات الحيطة والأخذ في الحسبان مايمكن توقعه من سيناريوهات ، لقد ولى إلى الأبد عصر البساطة و السكينة ، وكتب على الإنسان ركوب الصعاب. (*) أستاذ العلوم بكلية ابن مسيك