بعد ما حظي الإعلامي المغربي حاتم البطيوي بشرف الحصول على وسام ملكي يوم عيد العرش، احتفت مؤسسة منتدى أصيلة مساء الجمعة فاتح غشت به من خلال حفل كبير حضرته الكثير من فعاليات المدينة، وتم فيه تبادل عبارات التهاني بين أعضاء المؤسسة التي ينتمي إليها المحتفى به. "أحداث.أنفو" حضر حفل الاحتفاء هذا الذي جرى تنظيمه بقصر الثقافة، وأجرى مع حاتم البطيوي الحوار التالي. من حفل التكريم الذي خصصته أصيلة لإبنها بعد نيله الوسام الملكي حظيتَ سي حاتم بشرف التوشيح بوسام من جلالة الملك تثمينا لعطائك الإعلامي على مستوى العالم العربي. ما هي دلالات هذا الحدث بالنسبة إليك؟ + هذا التوسيم الملكي في حق شخصي المتواضع حدث أعتز به ، وسأظل أعتز به ما حييت. فالتشرف بالوقوف أمام حضرة صاحب الجلالة حدث يغمر النفس بالسعادة والبهجة والحبور، والتوشيح بوسام ملكي أمر في منتهى التشريف، ومكرمة أفتخر بها ، وهو تكريم للعمل الصحفي المهني الموضوعي الجاد والرزين، وتوسيم أيضا لجريدة "الشرق الأوسط " التي قضيت حتى الآن ربع قرن فيها ، ولم أرتبط بأي منبر إعلامي آخر غيرها منذ أن دخلت غمار العمل في مجال الصحافة المكتوبة سنة 1989. فجريدة"الشرق الأوسط " واكبت الشأن المغربي منذ سنة 1979، وتكريمها هو تكريم للصحافة الموضوعية والمهنية الصرفة، ذلك أنها ظلت متفتحة على المشهد السياسي المغربي بمختلف مكوناته وأطيافه، إلى جانب احترام المؤسسات والخصوصية المغربية ، ناهيك عن حرصها على الأخلاقيات وهذا شيء أساسي ومهم . إن تكريمي بصفتي صحافيا في جريدة الشرق الأوسط، هو تكريم لمساري المتواضع المتمثل في الإشراف على شؤون المغرب العربي بالصحيفة . ولقد كنت دائما أنطلق في عملي من منطلق أنه لابد للصحافي أن يكون صحافيا مواطنا، أي أن يكون الوطن في كنه مساره المهني. فليس عيبا أن يبشر المرء بالتطورات السياسية التي تعرفها بلده والتغيرات الهادئة والرصينة التي يزدان بها المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فنحن إذا قارنّا الوضع الحالي مع ما كان عليه الحال في الستينات والسبعينات، فإننا سنلمس بما لا يدع أي مجال للشك بأن المغرب قطع أشواطا كبيرة في مجال الإصلاح، وأصبح قطاع الإعلام بدوره يعرف هامشا كبيرا من الحرية لم يكن يتصوره أي إعلامي مغربي من قبل. وأود بهذه المناسبة أن أعبر من جديد عن امتناني وشكري الكبير لسيدي صاحب الجلالة الملك محمد السادس أعزه الله، على التفاتته المولوية السامية .
حاتم لحظة توشيحه من طرف جلالة الملك على ضوء تجربتك الواسعة في مؤسسة إعلامية قوية، كيف تنظر إلى هذه الحرية التي يشهدها الإعلام المغربي على مستوى التعبير والرأي والنقد؟ + كما قلت ، هامش الحرية موجود بشكل واسع في المغرب. والإعلام في آخر المطاف، مهما تطورت آلياته وتغيرت مساراته، فهو يظل ابن بيئته. فنحن مررنا بما يسمى بالصحافة الحزبية التي كانت هي المدرسة الحقيقية الأولى للصحافة المغربية، بما لها وما عليها. بعد ذلك طُويت الصحافة الحزبية، وجاءت مرحلة الصحافة المستقلة وكانت جريدة "الأحداث المغربية" عرّابة هذه المرحلة، قبل أن تتعدد العناوين والمنابر المستقلة ووسائط الاتصال الحديثة، ويحدث زخم كبير في المشهد الصحافي يتسم بالتنوع على مستوى الخطوط التحريرية. وكيفما كان الحال، فإن الطفل عندما يولد لا يولد وهو كبير السن. بل يولد صغيرا ويرتكب أخطاء فيُعاقبه والده، ويتعلم ويواصل أخطاءه وتعلمه صروف الدهر إلى أن يكتمل وينضج. الآن ولله الحمد تعرف الصحافة المغربية تعددا وتنوعا واختلافات في التناول والمقاربات. قد تحدث مطبات وأخطاء، لكن هذا أمر طبيعي، إنه حالة إنسانية بامتياز . أول من اشتغلت معه من رؤساء تحرير جريدة "الشرق الأوسط " هو الإعلامي عثمان العمير، ما هو مدى التأطير الذي حصلت عليه في المجال الصحافي من قبل هذه الشخصية الإعلامية؟ + لو أردت أن أحكي عن تجربتي في جريدة " الشرق الأوسط " وكيف بدأت العمل فيها لتطلب الأمر تأليف كتاب عن تجربة غنية ورائعة . فقد كنت محظوظا حين تعرفت على الأستاذ عثمان العمير سنة 1987 في أول زيارة له لمدينة أصيلة، ونشأت بيني وبينه صداقة ومحبة وعطف. سأروي لك كيف التحقت بجريدة " الشرق الأوسط".ذهبنا في إحدى أيام أغسطس من عام 1987 إلى أحد شواطئ أصيلة رفقة الأستاذ محمد بن عيسى وكان آنذاك وزيرا للثقافة. وكان بمعيتنا مجموعة من الأصدقاء من بينهم حسونة المصباحي الكاتب والروائي التونسي، وكنت حينها أدرس في السنة الثالثة بشعبة الحقوق بالرباط. .تركتهم يتبادلون الحديث وتوجهت للسباحة وبعد عودتي للجلوس معهم ، وشوش حسونة المصباحي في أذني قائلا : " حاتم. يجب أن تنجح في السنة المقبل بقوة السيف والسلاح". سألته : "لماذا ؟". قال لي : "لقد تقرر أن تذهب لكي تقضي سنة تدريب في جريدة الشرق الأوسط بلندن بعد أن تحصل على الإجازة، ثم تعود إلى المغرب لكي تعمل مراسلا للجريدة".وقال لي إن سي ابن عيسى قال للأستاذ العمير إنك تريد أن تكون صحافيا، وأضاف لماذا لا تدربونه لفترة في لندن ليعود وينضم لفريق مكتب المغرب . عندما سمعت الخبر من حسونة، لم أتحدث لا مع السيد بن عيسى ولا مع أي شخص آخر. ذهبت إلى الرباط وبدأت أدرس. بعد سنة نجحت وحصلت على الإجازة . ولما ظهرت النتيجة حوّلت ورقة مائة درهم إلى قطع نقدية من فئة درهم واحد، وذهبت إلى مخدع هاتفي، لأنه لم يكن هناك وقتئذ الهاتف المحمول، وهاتفت الأستاذ عثمان العمير. قلت له : "لقد حصلت على الإجازة. متى تريدني المجيء إلى لندن؟". قال لي :"الله يحييك. في أي وقت". ثم استدرك قائلا :"بعد يوم أو يومين، مرّ على مكتب جريدة الشرق الأوسط، ستجد تذكرة الطائرة". وهكذا ذهبت إلى لندن ، وبدأت الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل الصحافية . قضيت سنة متدربا في جريدة العرب الدولية، وبعد ذلك التحقت بمكتب الجريدة في الرباط، واشتغلت مراسلا لها. ومن خلالكم، أود أن أعبر عن عظيم شكري وامتناني للأستاذ عثمان العمير على دعمه الموصول ومحبته الدائمة ، ومهما أقول عنه فان ذلك لن يفي بما قدمه لي من دعم كبير . فهو على مستوى التأطير زرع فيَ الثقة في النفس، وكان نموذجا لرئيس التحرير الذي يثق في نفسه. عرفني على مسؤولين كبار وعلى عدة مصادر وشخصيات سياسية مهمة في العالم العربي والعالم .إنني سعيد لكوني اشتغلت في "الشرق الأوسط " زمن الأستاذ عثمان العمير. فأنا أعتبر نفسي من إنتاجه الصحافي.
حاتم البطيوي في إحدى المهمات الصحفية وبعد ذلك تعاقبت الأسماء على رئاسة تحرير الجريدة. كيف كان الأمر؟ + نعم. تعاقبت بعد ذلك الأسماء، وجاء بعده الأستاذ عبد الرحمان الراشد ثم الاستاذ طارق الحميد والدكتورعادل الطريفي والآن الأستاذ سلمان الدوسري ، الذي جرى تعيينه في هذا المنصب في فاتح شهر يوليوز الماضي. الأستاذ عبد الرحمان الراشد الذي تقلد منصب رئيس تحرير الجريدة بعد الأستاذ عثمان العمير كان امتدادا لعهد عثمان العمير بيد أنه كان مدرسة أخرى مستقلة بذاتها، وحرص على تطوير الصحيفة في إطار الاستمرارية ، ولقد لقيت منه دعما كبيرا وهو رجل يملك سعة صدر كبيرة ، وراق في تعامله مع الزملاء الصحافيين . وأود بالمناسبة أن اشكر الدكتور عادل الطريفي رئيس التحرير السابق الذي وضع ثقته في وكلفني مهمة القسم السياسي في الصحيفة. وهي تجربته أعتز بها . انطلقت في العمل الصحافي من ثقافة لها ارتباط بالمدرسة العمومية المغربية. هل طبيعة التكوين في المغرب تساعد على تحقيق النجاح الإعلامي على مستوى العالم العربي وتضمن له التألق في هذا الحقل الصعب ؟ + أنا وأنت وآخرون غيرنا، نحن نتاج المدرسة العمومية المغربية. وطبعا كل واحد له ظروفه ومساره الخاص. فأنا مثلا إلى حدود الباكالوريا كنت أقرأ لكي أنجح . لكني في الوقت نفسه كنت أوزع وقتي على قراءة المجلات والجرائد والروايات ومذكرات السياسيين والأدباء وكل ما له علاقة بالثقافة العامة. وفي الكثير من الامتحانات وظفت ثقافتي العامة أكثر من توظيفي لما درسته في المقررات الدراسية. وأتذكر أنني كنت قد قرأت الكثير عن طه حسين خارج إطار ما هو موجود في المقرر الدراسي، وعندما طُرح موضوع حول طه حسين في امتحان الباكالوريا أجبت عنه انطلاقا مما قرأت خارج المقرر، فوفقني الله ونجحت. عموما، حتى ولو كنتَ تدرس في المدرسة الأمريكية، إذا لم تبذل مجهودا موازيا بغرض تكوين النفس وتقوية العقل وتثقيف الذات، من خلال الاطلاع والبحث، فإن ما تتلقاه من المدرسة أو المعهد أو الجامعة لن يكفيك لتحقيق كل طموحاتك. أصيلة : الانتماء الأول الجميل هل وسطك الذي كبرت وترعرعت فيه كان له تأثير على تكوينك الذي أدى بك إلى ممارسة هذه المهنة التي حققت فيها نجاحا كبيرا؟ + أنا وأبناء جيلي في مدينة أصيلة ربما كنا محظوظين. فعندما فتحنا أعيننا وجدنا مشروعا ثقافيا مذهلا كبيرا في مدينتنا. فموسم أصيلة الثقافي هو الجامعة الحقيقية التي تخرجنا منها. والجميل في هذا الموسم أنه في بدايته سنة 1979 كان هناك صراع كبير بين الأحزاب، وكان هناك حضور قوي للمعارضة. فتحنا أعيننا في هذا المناخ على مشروع ثقافي طلائعي قلب مصير المدينة رأسا على عقب بالثبات والحكمة ومذاق السكينة والصبر. آنذاك بدأت المدينة مرحلة جديدة مفعمة بالآمال بعدما كانت مدينة مهمشة أو بالأحرى قرية منسية . وقتها كان المغرب في عز التجاذبات السياسية ما بين المعارضة والحكومة. وطبعا أي عمل ثقافي طلائعي آنذاك كان يُنظر له بشكوك من خلال الموقف الذي تتبناه كل جهة. الذين في اليسار كانوا ينظرون إليه على أساس أن وراءه جهات شيطانية خارجية ذات أجندة غير وطنية، والذين كانوا في اليمين نظروا إليه على أنه مشروع شيوعي -ماركسي، وهكذا دواليك .أنا وجيلي أيضا محظوظين لأننا فتحنا أعيننا على زيارات جلالة الملك محمد السادس أيام كان ولياً للعهد لأروقة الفنون في أصيلة، إذ ظلت مواسم أصيلة تنظم تحت رعايته السامية أيام كان وليا للعهد ، وتواصلت رعايته لما تولى مقاليد حكم أجداده الميامين . فتجربة أصيلة واستمراريتها مدينة للدعم الموصول لجلالة الملك محمد السادس، الملك المثقف والفنان . من جهة أخرى ، إن جو الانفتاح السياسي الذي عرفته بلادنا مع انطلاق ما سمي في منتصف السبعينات " المسلسل الديمقراطي " الذي تزامن مع انطلاق فعاليات أصيلة تميز بحضور الشخصيات الفكرية والسياسية والثقافية بمختلف مشاربها وتوجهاتها، إذ كان يأتي إلى خيمة أصيلة اليميني واليساري والشيوعي والماركسي والليبرالي والإسلامي. والكثير من المصطلحات انطلقت من أصيلة. ففيها جرى الحديث لأول مرة الحديث عن المجتمع المدني وعن الحوار جنوب -جنوب ، وعن المنظمات شبه الحكومية ، وعن حوار الثقافات وغيرها من العبارات. وأذكر آنذاك أنني طرحت سؤالا على نفسي حول مسألة الانتماء. هل من الضروري أن يكون الإنسان منتميا إلى فئة سياسية معينة ؟ وهل الانتماء السياسي بتعصب ودوغمائية ظاهرة صحية؟ فخلصت إلى أن أكبر عدو للإنسان هو أن يكون مُؤدلجا. لأنك في تلك اللحظة سترى فقط طريقا واحدا سيؤدي بك إلى الحائط، وسيصبح الأمر شبيها بعمى الألوان .ولذلك علمتني أصيلة روح التسامح والانفتاح على الآخر . فيها لمست كيف أن أكبر المتصارعين في العالم العربي حين يلتقون يتحدثون فيما بينهم بأسلوب حضاري بلا عقد. أسلوب عقلاني يخلو من التنابز . ولهذا يمكن القول بأن أصيلة كان لها الفضل في تلقيني مبادئ الإنصات والحوار، واحمد الله أنني عشت مرحلة بداية المشروع الثقافي لأصيلة من بدايته، وها هي أصيلة تكبر الآن بكل أبنائها .