وضع رجل الدرك الملكي رأسه بين يديه وجال بتفكيره بين سنوات الماضي يبحث عن تفاصيل جريمة ظلت عالقة بأذهانه من فرط هولها، رغم الزخم الهائل من الجرائم، التي طالما تولى التحقيق فيها طيلة مشواره المهني. فلم يجد غير الجريمة التي ارتكبتها “بهيجة” في حق وليدها الذي جاء إلى هذه الدنيا على إثر علاقة آثمة، حيث حفرت له قبرا بين أشجار الصبار يؤويه ويخفي سر خيانتها الزوجية، إلا أنه سرعان ما انكشف سرها بعدما استوت بطنها عقب الولادة... يروي الدركي أنه بعد سنوات قليلة من زواجها، عادت بهيجة إلى بيت عائلتها بعدما هجرها الزوج لإرتفاع وثيرة الخلافات التي جعلت فترات السعادة قصيرة في حياتهما المشتركة، عادت و في حضنها طفلين صغيرين من بوشعيب الذي انقطعت أخباره منذ أن رحل إلى العاصمة الرباط بحثا عن فرصة عمل تساعده على مواجهة صروف الحياة الصعبة بعيدا عن الدوار حيث الفراغ الرتيب و المشاكل العائلية التي لا تزيد المرء إلا غضبا و انفعالا... مرت زهاء ثلاث سنوات و نيفا دون أن تذوب جبال الجليد التي علت بين الزوجين، فجأة أخذت بطن بهيجة تنتفخ شيئا فشيئا حتى أضحت موضوع مجالس و ثرثرة المتلصصين من ساكنة الدوار، لم تعد تقدر على مواجهة نظراتهم التي تنطلق اتجاهها كسهام جارحة و لا همهماتهم التي تسري بينهم كلما لاحت لهم، فتفتقت عبقريتها على إخبار كل من دفعه الفضول إلى معرفة سر هذا الإنتفاخ المفاجئ بأن مرضا مزمنا قد ألم بجهازها الهضمي، بيد أن نسوة الدوار العارفات بشؤون الحمل لم تنطل عليهن حيلتها، سيما و أن بهيجة أصبحت بتوالي الشهور لا ترتدي غير اللباس الفضفاض أملا منها في أن تواري سوءتها... ذات صباح ظهرت بهيجة و قد استوت بطنها، فشاع بين السكان خبر تخلصها من الجنين الذي كانت تحمله بين أحشائها، وصل صدى ذلك إلى رجال الدرك الملكي الذين قرروا فتح بحث في النازلة، استمعوا إليها في أكثر من مناسبة، و كانت في كل مرة تسرد عليهم تفاصيل يصوغها لها خيالها حول سيناريو الجريمة دون أن تدلهم على الحقيقة... أكد الدركي بأنه ظل رفقة زملائه يتتبعون خيوط هذه الجريمة للإيقاع ببهيجة حيث استمعوا إلى عدة شهود قبل أن يعملوا على استدعائها من جديد إلى المركز إذ حاصروها بأقوال المقربين منها لتنهار و تعترف بمكان دفن الجنين الذي ولد ميتا حسب ادعاءاتها... رافق رجال الدرك الملكي مؤازرين بعناصر الوقاية المدنية المتهمة نحو المقبرة التي شيدتها خصيصا لإحتواء جثة وليدها، فلم تكن غير جنبات أشجار الصبار المحيطة ببيت عائلتها، دلتهم على مسرح الجريمة بالتحديد، فشرع رجال الوقاية في حفر المكان إلى أن عثروا على جثة رضيع ملفوفة بقطعة قماش تناثرت عليها قطرات دم ممزوجة بالتراب، كانت الجثة قد تحللت ففاحت منها روائح كريهة فور استخراجها من عمق الأرض، مما جعل المحققون يعجلون بنقلها إلى مستودع الأموات قصد إجراء عملية التشريح... حاولت بهيجة أن تورط العديد من نسوة الدوار في هذه القضية إذ ظلت في كل مرة تتهم إمرأة بمشاركتها في ارتكاب الجريمة، بل حتى شقيقها المختل عقليا و والدتها التي زحف البياض على رأسها لم يسلما من ادعاءاتها قبل أن يتوقف خيالها عن إنتاج المزيد من سيناريوهات الإتهام حين قررت الإعتراف بالحقيقة دون مواراة و لا مواربة... جلست أمام الدركي ذاته و شرعت تحكي بأن طوق الحاجة ما فتئ يحكم قبضته عليها كلما زحفت الشهور بصغيريها قليلا حيث تكبر معهما المصاريف و المتطلبات، مما جعلها تبحث عن رجل بديل لزوجها الذي هجرها أملا منها في أن يساعدها على تربيتهما، لم يكن هذا الرجل سوى ابن الجيران محمد الذي وهبته جسدها مقابل توفير حاجياتها البسيطة من الزيت و السكر و الصابون... كان محمد سخيا مع خليلته المتزوجة مما فتح شهيتها للقائه مرات متعددة و قضاء لحظات حميمية بين أحضانه، إذ ما إن يختليان ببعضهما البعض بين سنابل الحقول حتى ينغمسا في إشباع شهوتهما الجنسية على إيقاع تبادل العناق و القبلات و الكلمات الرومانسية الرقيقة بشكل ينسيهما خطورة ما يقترفانه... استمرت العلاقة بينهما على هذا المنوال، حب و غرام و جنس تحت نجوم السماء حتى أحست بهيجة بشيء ما يتحرك داخل أحشائها لتدرك بفضل تجربتها السابقة أنها حامل... أخبرت عشيقها بالفضيحة التي جعلت النوم يخاصم جفونها إلا أنه لم يكترث لكلامها بدعوى أن ما تحمله ليس من صلبه، مرت الشهور و بطن بهيجة تزداد انتفاخا حتى جاءها المخاض ذات فجر، استيقظت وهي تداري أوجاعها في صمت، انهمكت في قضاء بعض الأشغال المنزلية في محاولة لنسيان الألم دون أن تثير انتباه والدتها التي توجهت نحو المدينة لقضاء بعض الأغراض و لا شقيقها المختل الذي سار خلف قطيع الماشية نحو المرعى... استغلت بهيجة خلو المنزل فانزوت إلى أقصى ركن من أركانه و أخذت تجهد نفسها لوضع الجنين في صمت بعيدا عن أعين المتلصصين من الأقارب و الجيران، و ماهي إلا لحظات حتى استطاعت أن تنجب وليدها لتزداد حيرتها إذ لم تعد تدري ما تفعل إزاء هذه الفضيحة التي إذا ما شاع خبرها ستنقلب إلى وصمة عار على جبين العائلة ككل، لم يمهلها الوقت في التفكير أكثر إذ سرعان ما قادها حدسها إلى دفن الجنين، فتناولت معولا و شيدت له قبرا بين أشجار الصبار... الجديدة : عبدالفتاح زغادي