لم تجد الفتاة ذات الأربع عشر عاما، بعدما قضت ليلتين وهي هائمة في الحدائق والشوارع، سوى محطة الحافلات لتتكوم على كرسي وهي تجهش بالبكاء، تحاول من حين لآخر كفكفة دموعها، مرة بيديها ومرات عديدة بتنورتها التي غيرت الأوساخ لونها، وماهي إلا ساعات قليلة حتى اعتقلتها الشرطة لتستعيد شريط حياتها التي انقلبت يوم تعرفت على شاب أسر قلبها، فركبت رحلة الضياع. رحلة الضياع بعدما بلغت فاطمة الزهراء سبع سنوات ولجت المدرسة الإبتدائية التي تبعد عن منزلها بثلاث كيلومترات، فعانت صعوبات كثيرة مثل الآلاف من الفتيات القرويات لتتمكن من التمدرس. كانت رغبتها القوية في أن تصبح محامية تدفعها باستمرار إلى بذل المزيد من الجهد، فتميزت على زميلاتها بالتفوق والذكاء الحاد مع عشقها المستمر للغناء. في كل فسحة تتحلق حولها التلميذات ليستمتعن بصوتها الطروب الذي يحلق بهن في سماء الأحلام، فاستحوذت على إعجاب الأساتذة والأطر التربوية، ولا تمر مناسبة وطنية أو دينية إلا وكانت نجمتها المتألقة. بعد أن حازت الشهادة الإبتدائية، غادرت قريتها الصغيرة صوب دار الطالبة، تحصد يوما عن يوم النتائج الطيبة، فحصلت على أعلى معدل في السنة التاسعة لتحوز على التقدير والإعجاب. في عطلة نهاية الطور الأول، اصطحبت صديقتها في زيارة لأسرتها امتدت لأسبوع، زيارة عصفت بأحلامها وجعلت الفتاة الساذجة تعيش حالة ضياع. في ذلك اليوم الربيعي، أثارت انتباه والد صديقتها المعروف بمغامراته النسائية، فبدأ يحوم حولها مستغلا طيبوبتها وسذاجتها، فسقطت في شباكه وهي الطفلة التي لم تتجاوز الرابعة عشر، وانجرفت وراء عواطفها، تجلس داخل القسم شاردة تائهة غير قادرة على التركيز، تنتظر نهاية الأسبوع لتلتقيه، بعد أن تعمل على تمويه المسؤولين عن دار الطالبة، لتخرج معه للمطاعم والمقاهي. وفي لحظة استسلمت له، لتبدأ رحلتها في عالم الضياع، بعدما أشبع غريزته قذف بها إلى الشارع، تنهش الذئاب البشرية جسدها الطري، غير قادرة على العودة، فانزوت بالمحطة الطرقية تسترجع ذكرياتها الأليمة مرت ساعات الليل طويلة جدا على أفراد الأسرة تنتظر عودتها لكن دون جدوى، فتجندت الأسرة وأهل الدوار للبحث عنها في المستشفيات ومراكز الشرطة دون أن تعثر عليها. بعد شهرين من غيابها، فوجئت الأم بمكالمة هاتفية من مجهول يدعي فيه أن امرأة في الخمسين من عمرها، التقت بها في الطريق واستدرجتها صوب مدينة طنجة، لتزداد مخاوف والديها بشكل كبير. بعد ستة أشهر من الانتظار، توصلت الأسرة باستدعاء لمخفر الشرطة، فحضر الأب مسرعا لاستلام ابنته عندما علم بالعثور عليها. هناك سيطرت عليه دموع الفرح الممزوجة بالخوف، لتكون الفاجعة الكبرى حينما تبين أن الفتاة الصغيرة يسكن في أحشائها جنين في أشهره الأولى. تردد كبير أصاب الفتاة التي جلست صامتة متكومة فوق الكرسي، ترتعش من شدة الخوف، يشع من عينيها البريئتين حزن دفين. وبعد لحظات توجس، ارتمى الأب في حضن ابنته وهو يجهش بالبكاء، مشهد اهتزت له المشاعر ورقت له الأفئدة، لتعود فاطمة الزهراء إلى حضن والديها بعد رحلة ضياع استمرت لشهور. الهرب إلى المجهول عاشت مونية أجمل اللحظات رفقة أسرتها الصغيرة، ومارست شغبها الطفولي إلى جانب أطفال الحي، فرغم قساوة الظروف كانت مونية تزرع البهجة في قلب والدتها التي وجدت نفسها بعد وفاة والدها، تصارع الزمن دون سند أو معين. لما اشتد عودها وأخذت ملامح الأنوثة تطبع جسدها، ارتبطت بابن الجيران الذي هامت بحبه فقضت مراهقتها بصحبته إلى أن اكتشفت أنها حامل، فسارعت لإخباره منتظرة منه أن يتقدم لخطبتها، لكنه تنكر لها وطالبها بالإجهاض. تتذكر تلك اللحظة فتمتلئ عيناها الضيقتين بالدموع، وتحس بالغدر يحاصرها، فيتملكها الخوف والرعب بعد أن تأكدت أنه لن يستطيع تضميد جراحها. وما إن برزت بطنها للعيان وانتفخت حتى علمت الأم بالخبر، فهددتها أن خالها إذا علم بالخبر فسيقتلها لا محالة. أصاب الفتاة رعب شديد، وفضلت في فجر اليوم التالي أن تهرب خلسة دون أن يلمحها أحد. اشتغلت كخادمة في البداية حيث تعرضت لشتى أنواع التعذيب والتنكيل، بعد اكتشاف حملها من طرف مشغلتها التي طردتها وهي تتفوه بكلام جارح «سيري شوفي شي بلاصة فين تلصقي المصيبة ديالك». وبعد فترة تسكع تعرفت على فتاة تعاطفت معها، فكانت فرصة مارست خلالها حريتهما في اصطياد الزبائن وتلبية رغباتهم بشقتهما الصغيرة. تحاول مونية إخفاء آلامها ومعاناتها بابتسامتها الرقيقة، تروي قصتها التي حولت أحداثها مونية من فتاة بريئة وديعة إلى فتاة تجوب المقاهي والملاهي الليلية لاصطياد زبائن يبحثون عن اللذة. مرت سنوات والأسرة تبحث عنها، بل إن والدتها وجدتها التجأتا إلى القنوات الإعلامية للإعلان عن رغبة الأسرة في عودة مونية إليهم وأنهم صفحوا عنها. في لحظة غير مترقبة عادت مونية إلى منزلها بعدما سمعت النداء تحمل بين ذراعيها طفلا بالكاد أكمل سنته الثانية، لتجد رغم المعاناة والدتها وقد فتحت ذراعيها لاستقبالها وهي تردد «الحمد لله» رغم مرور سنوات على هربها، مازال الحزن والأسى يستوطن قلبها، تعاودها من حين لآخر هواجس الهرب. د