«الحملة على الإسلام والعرب»، هو عنوان المقال المنشور بجريدة «الشرق الأوسط» بتاريخ 18-04-2014، والذي «أوقد» به المفكر اللبناني د. رضوان السيد نقاشا مفتوحا بين عدد من المثقفين، حول ما اعتبر أن «الإسلام» يتعرض له من تحطيم على يد «العقلانيين التنويريين»؛ إذ ذهب إلى أن «الإسلام»، بوجه عام، و«الإسلام السني»، بشكل خاص، يعاني معاناة مزدوجة، جراء ما يلحقهُ من «تحطيم» سواء من لدن «التيار العقلاني التنويري» أو من لدن «التوسع الطائفي المذهبي» الذي تتبناه أساسا أجندة شيعية تجعل من الهيمنة عقيدة لها، منتقِدا الموقف المُهادِن والمُداهِن لكثير من «العقلانيين» حيال أشكال الاستبداد والعنف التي تنخرُ الواقع العربي اليوم، في مقابل غزارة الكتابات «التحطيمية» للإسلام السني تعيينا، باسم «تحرير» الإسلام و«تنويره» و«تثويره»، وتحت شعارات «تفكيك الأوثوذوكسيات» أو «نقد العقل الإسلامي» أو نقد «إسلام أهل الحديث»… إلخ. بل إن د.السيد لم يكتف بالتلميح للمثقفين المعنيين بنقده، بل صرَّح ببعض الأسماء التي يتهمها بهذا النزوع، وفي طليعتهم الراحل محمد أركون ثم عبد المجيد الشرفي وجورج طرابيشي وأدونيس، معتبرا أن «تحطيمهم» لتقليد «الإسلام السني» في التعامل مع النصوص هو الذي فسحَ المجال أمام انفجار الأصوليات المتطرفة التي ينتقدونها. ويدعم صاحب المقال رؤيته النقدية هذه بقراءة لتداخلات السياسي والديني في الواقع الإسلامي والعربي الراهن، متهما «العقلانيين العرب» بإسهامهم في تأزيم هذا الواقع من خلال مواقفهم المداهنة للمستبدين، أو الإعراض عن توضيح تلك المواقف، مع الإمعان في نقد «الإسلام السني» الذي كان تقليدهُ أكبر سند لحماية الأمة من التطرفات «الجهادية» و»الطائفية» التي تعصف اليوم بواقع المسلمين. ليس هذا تلخيصا للمقال المشار إليه أعلاه، ولا ننوي مناقشة كل الأفكار الكثيفة التي يشيِّدُ بها الأستاذ السيد رؤيتَهُ، وإنما سأبدي ملاحظات تتعلقُ ببعض الأسماءِ الفكريةِ التي ورد اتهامها ب»تحطيم» الإسلام؛ وذلك بعيدا عن إمِّيةِ التقريظ أو التعريض؛ المدح أو القدح، فالنقدُ المعرفي هو اشتغال تحليلي تركيبي أنأى ما يكونُ عن أحكام القيمةِ تمجيداً أو تنديداً، مثلما أن الطواياَ لا تنبجسُ بشكل آلي على مرايا السطوح. وعليهِ، فإنني لا أشك في طوية د. السيد وغيرتَه على الإسلام، مثلما لا أرتاب في طوية الراحل محمد أركون وغيره، فأمرُ السَّرائر غيبٌ، ونحن نقارب الأعمال لا النوايا؛ وفي البحث العلمي «النيات بالأعمال» بخلاف الأمر في الشأن التعبدي. وعليه، فإن اتهام الراحل محمد أركون (ومن نحا نحوه) بالعمل على «تحطيم» الإسلام يحتاج إلى تبيانٍ وبيِّناتٍ وبيان؛ خصوصا وأن المتَّهِمَ باحثٌ متمكِّن ومتبحِّر، خبِر النقدَ المعرفيَّ وأخلاقَ البحث العلميِّ، بل سبق له أن ناقش الراحلَ محمد أركون في طروحاته وكتب عنها، و ما نعلمُ – حسب اطلاعي المتواضع، أنه صارحهُ بهذا الاتهام في تلكَ المناقشات والكتابات. أعتقدُ أن ثمةَ مساراتٍ متعددة بل ومختلفةٍ في الرؤى والمقاربات، وهو ما ينبغي مواجهتُه علميا، أي عن طريقِ الإمعان في الكشف، مثلا، عن مدى إجرائية الأدوات المنهجية التي تبناها أركون في الاقتراب من النصين التأسيسيين الإسلاميين، ومدى الملاءمة المعرفية لعلم «الإسلاميات التطبيقية» الذي دعا إليه، مع فحص تلك الملاءمة على المستوى الإبستمولوجي وعلى مستوى مسارات الإنجاز التي ما فتئ يفتحها أركون، والتي خطَّت مشاريع بحوثٍ ظل جلُّها مقترحاتٍ مُعَلَّقَة؛ أضف إلى ذلك أن محمد أركون ظل دوما يميز بين «الحدث القرآني» و«الحدث الإسلامي»، وبين «النص الأول» و«النص الثاني» أو النصوص المُشَكّلة انطلاقا من قراءة «النص الأول»، مما يعني أنه ظل يحاول دوما التمييز بين «النص الديني المقروء» و»القراءات البشرية التاريخية»، مما يعني محاولة النأي بنفسهِ عن مثل ما صدر عن الأستاذ السيد في حقهِ. والخلفيةُ التي تحكم التمييز المذكورَ هي ذاتها التي يصدر عنها كثير من العقلانيين المسلمين في تدقيقاتهم المفاهيمية؛ مثلَ تمييز عبد المجيد الشرفي أو عبد الجواد ياسين بين «الدين» و»التدين»، وعبد الكريم سروش بين «الدين» و»المعرفة الدينية»؛ وعلي أومليل بين «الإسلام المعياري» و»الإسلام التاريخي»… إلخ. على أن الإشكال الذي ظل دوما مطروحا في التعامل مع هذه الثنائيات هو التالي: كيف يمكن التمييز بين «المتعالي» و»التاريخي» في التعاطي مع الدين؟ كيف نفرِّق بين «الثابت» و»القدسي» وبين «المتحول» و»البشري»؟ إن هذه المقاربات تؤكد جميعُها أنه حصل خلال التاريخ الإسلامي تقديس الفهم البشري للنص الديني وإضفاء القداسة عليها واعتبارها من الدين المقدس، ومن ثم تذهبُ إلى أن المقاربة التاريخية من شأنها أن تبرز نسبية وبشرية وتاريخية كثير من الفهوم التي أضحت تمثل اليوم جزءاً من «الشريعة الإلهية»، في حين أنها نتاج فقه بشري وفهم تاريخي للنصوص الدينية. لا يجيبُ، في الغالبِ، عقلانيُّونا عن سؤال الحدود هذا ( طرحتُ، مثلاً، هذا السؤال بشكل مباشر على الأستاذ عبد المجيد الشرفي أثناء مشاركتِه في ندوة «لقاء الأديان .. من أجل حوار إسلامي – مسيحي» المنعقِدة بتاريخ 02-05-2014 بالمكتبة الوطنية بالرباط، فأجابني عن غيرهِ وتغافلَ عنهُ)، ربما لكون هذه الحدود نفسِها متحركة وتاريخية في نظرهم، وهو ما يطرح جمّاً من الإشكالاتِ الملتهبة و المعلقة بين العقل والإيمان، بين الدنيوي والمقدس. على أن الملاحَظ هنا أن دائرة المقدس بقدر ما تتسع لدى السلفيين والمقاربات الدينية التقليدية، تضيق لدى التنويريين العقلانيين إلى أن تُشرِف على العدم عند بعضهم. وهنا نجد الإشكال متَّقِدا، حتى بين من يُعَدونَ مفكرين عقلانيين تنويريين أنفسِهم، فهذا أركون الذي اعتُبر»مُحطِّما» للإسلام من لدن رضوان السيد، و»مُنسلِخاً عن الإسلام» كما وصفه و زميلَهُ عبد المجيد الشرفي عقلانيٌّ آخر هو الأستاذ محمد الطالبي في كتابه «ليطمئن قلبي» (دار سيراس للنشر، تونس 2008 )، نجدُه في تقدير آخرين ناكصا بالعقلانية مُجهضاً لها، بل «إسلاميا» مُقَنَّعا لا يذهب بالعقلانية إلى أقصاها ليخلُصَ إلى نتائجِها المنطقية في مقاربة الدين، بل يخضع أركون -حسب هؤلاء- لنفس المُسلَّمَات التي يزعم أنه يزحزحها ويُخلخلها، (راجع مثلا كتاب « العقل بين الوحى والتاريخ: حول العدمية النظرية فى إسلاميات محمد أركون» لمحمد المزوغي، منشورات الجمل، كولونيا ألمانيابيروت 2007). يكشفُ سؤال الحدود بين المتعالي والتاريخي، من جهة، أننا إزاءَ مقارباتٍ لها التعدد والتنوع والاختلافُ وإن كانت تحمل جميعها عنوان «العقلانية» و«التنوير»؛ كما يكشفُ، من جهةٍ ثانيةٍ، أن فِكرَ محمد أركون – كبيرِ هذا الاتجاهِ- فكرٌ إشكاليّ يلزمُ طرحُ أسئلتهِ في دائرةِ النقد المعرفي لا في دائرة الإيديولوجيا، خصوصا وأن الرجلَ ما فتئ يؤكّدُ في جلِّ أعمالهِ أن السياقات الإيديولوجية الملتهبة في العالم العربي الإسلامي ظلت دوما تؤجلُ العملَ النقدي الضروري الذي يَحتاجهُ العقل الإسلامي من أجل الخروجِ من انغلاقاته والتحرر من عوائق تحديثه. لذا، لا يمكنُ أن نتفق مع أستاذنا رضوان السيد في الإلماحِ إلى أن أركون، مثلا، يخدمُ بفكره أجندةً شيعية، في الوقت الذي نجدُ الرجلَ في كل أعماله ينتقدُ «استراتيجية الاستبعاد المتبادل» بين مختلف الفرق الإسلامية، وينتقد «منطق الفرقة الناجية» الذي يحكمها، ويدعو إلى «الخروج من السياجات الدوغائية المغلقة» كيفما كانت من أجل إعادة بناء العلاقة مع النصوص الدينية في أفق متحرر من إكراهات الصراعات التاريخية وما يرفدها أو ما نجم عنها من صراعات تأويلية، أو «صراع على الإسلام» إذا استعرنا عنوان أحد كتب الأستاذ رضوان. بل إن تفكيك أركون لآليات العقل الإسلامي كان يذهبُ إلى إبراز الآليات العميقة المشتَرَكة بين السنة والشيعة في التعامل مع النصوص والتاريخ وتشكيل المخيال الإسلامي، وأن تجاوز هذه الفُرقة بينهما يقتضي تجاوز الآليات المنتِجَة لها. نعم، يمكن أن نناقش أعمال الأستاذ أركون من حيثُ مدى فعالية المناهج والمقاربات التي اقترحها، بل ويمكن أن نؤاخذ عليه شُحَّ الانخراط العلمي في تنفيذ المشاريع التي طرحها، إلى درجة جعل الكثير من مؤلفاته منافحة عن مشروعه ومنطلقاته وتكرارا لعرض أسس هذا المشروع أكثر منها أعمال إنجازية للآفاق البحثية التي اقترحها. فقد ظل مثلا طموحه في خلق المواجهة المعرفية الشاملة بين النص القرآني والفكر العلمي طموحا مؤجلا؛ مثلما ظل مشروع دراسته للمجاز في القرآن الكريم دراسةً معاصرة أملا معلقا، فيما لم تتجاوز قراءتُه الحديثة للقرآن الكريم بضع سور أو آيات طغى عليها الهاجس المنهجي بشكل يكاد يُشعِر القارئَ أن سؤال المنهج مُقدَّم عنده على سؤال النصِّ والمعنى، في حين أننا إزاء نصوصٍ لا تحتمل الإغراقَ في التجريب؛ لأنها نصوصٌ تُنتِج معنى إيمانياً وغذاءً أنطولوجيا تتعيَّش عليه الأرواح والقلوب، أما تفكيكُ القراءة الإيمانية السائدة للنصوص دون صياغةِ بديل للمعنى، فإنه يؤدِّي إلى إهدار المعنى بدل تحريره وتنويره. إن مناط الالتباسِ في الاقتراب من أركون ومن نحا نحوه، يكمنُ أساسا في ذاك التوتر الناجم عن العلاقة الجدلية القائمة بين المقاربة الإيمانية والمقاربة العقلانية للدين، ذلكَ أن المؤمنين، في الغالب، يُقبلونَ على تلك المقاربات العقلانية لدينهم وهم مأخوذون بتبشيرات العقلانيين لهم ب «التنوير»، تنوير إيمانهم لا «تحطيمهِ» وعقلنتهِ لا «سلخهم عنه»، لكنهم يُفاجؤونَ، وهنا منبع التوتر، حين لا يجدون في هذه المقاربات بناءً بعد تفكيك، ولا إنتاجاً بعد إهدار، ولا إثباتاً بعد محو. وقد سبَّب هذا الأمرُ اصطداما مازال مفتوحا بين المقاربة الإيمانية وهذه المقاربات. فمع كون هذه الأخيرة -خصوصا مع أركون ومن نحا نحوه- ما تفتأ تُعلن أنها لا تعادي الدين ولا تتنكر للإيمان، وإنما تسعى إلى تحريره وتنويره وتجديده ليقوم على أسس عقلانية بدل أن يُبنى على أسس هشة أسطورية أو لا تاريخية، إلا أن عمل هذه المقاربات في الغالب لا يتجاوز التفكيكَ والإعلانَ عن حسن الطوية في التعامل مع النص الديني والتأكيد على الضرورة الأنطولوجية للإيمان، وقدرته على إضفاء معنى غائي على وجود المؤمن بما لا يستطيع غيرُه أن يحل بدله في إضفائه، فيما تظلُّ النتيجةُ العملية للتفكيك هي تفجيرُ التنزيلات التاريخية لهذا الإيمان دون امتلاك أي قدرة تيولوجية على بناء معقوليات إيمانية حديثةٍ بديلة، وهذا ما يُحوّلُ، في نظر البعض، ذاك «التفكيك» إلى «تحطيم»، وذاك «التحرير والتنوير» إلى «انسلاخ عن الدين». وقد بدأت اليوم مقارباتٌ جريئة تحاول الاضطلاعَ بهذه الوظيفة المفقودة في المقاربات المذكورة، وإن كنا نرى أن ثمة ضرورةً لانخراط «علماء الدين» في هذا الأمر من أجل إعادة «عقلنة» و«روحنة» الإيمانِ اليوم بما يلائم خصوصيةَ العصر ومقتضيات الأسئلة المعاصرة، ويستخلص الثوابتَ والمتعاليات العقَديةَ والإيمانيةَ الثابتة من ملابسات التحيز المكاني والزماني والسياقات التاريخية والموجهات الإيديولوجية المتقلبة. و إجمالا، فإن ما يقال في هذا المستوى عن الأستاذ أركون يقال أيضا عن الأستاذ عبد المجيد الشرفي، والذي تبدو أحيانا معرفته التراثية أمتنَ من غيره، وتأطيره لمشاريع البحث وتوجيهيها أكثر فعالية في الحضور، وهو يكاد يتميز بتدخله في الاجتهاد العقلاني في العبادات نفسِها لكن دون القدرة على تحقيق تلك المعادلة بين تفكيك مقتضيات الإيمان «التقليدي» وإحلال بدائل نسقية مقنعة عقليا وإيمانيا. إنه مطمح ما يزال بعيد المنال، وهو ما يُستنتج أيضا من كتابه الأخير «مرجعيات الإسلام السياسي» (دار التنوير للطباعة والنشر، 2014)، والذي فكك خلاله مستندات هذا الإسلام الفقهية والسياسية والتاريخية، ولكن آفاق المعنى البديل ظلت دوما مُرجأة، وهو قد يجعل من تفكيكه هذا أيضا «تحطيما» للدين في نظر البعض، خصوصا وأن «التقليد السني» الخاضعَ لهذا النقد كان يشكل سدا منيعا ضد الأصوليات الحديثة المتطرفة، حسب الأستاذ السيد. تبقى كلمة أخيرة لا آخرة، وهي أن رؤية د. رضوان السيد تنغرس بقوة في الواقع السياسي الراهن بصراعاته ورهاناته، وهي رؤيةٌ تنبعثُ منها حمولةٌ طائفية، لعل المفروض في مُفَكِّر من طرازه و عمقهِ أن يعمل على تفكيكها وتحريرنا منها لا الحديثِ باسمها، بل من المفروض فيه أن يظل سلاحُه النقدي مُشهَراً في وجهها مهما كانت الأجندات السياسية لهذا الطرف أو ذاك، ذاك هو رهان العالِم والمثقف الذي دائرةُ عمله الالتزام بالمعرفةِ والسمو بالمعنى، و رأسمالهُ الاستقلال الفكري و روحُه النقديةُ، وغايتهُ طلبُ الحقيقة سعيا لتحصيل وتحصين مختلف القيم الدينية والكونية المحققة لرقي الإنسان وكرامته. تلك هي رسالةُ العالم والمثقف كما تمليها روح الدين حسب ما أفهمه، رسالة تدعوه إلى إدانة كل الانحرافات عن مسار خدمة الحقيقة و السمو بالإنسان، مثلما تدعوه إلى السعي للتغيير بأدوات مجاله ليس إلا، و حتى إن كان «صوتُه» خافتا أو محاَصَراً في لحظة ما، فما من سبيل غير سبيل الاجتهاد والكد والبذل، على غرار أسلافه، كيما يتحول ذاك «الصوتُ»، بالتراكم والنضال المعرفيين، إلى تيارٍ قادر على صياغة التاريخ والفعل فيه، بدل الخضوع ل«قدره» والانفعال بأجندات الاستبداد والتسلط فيه. *باحث الفكر الاسلامي