«شكرا لكم لأنكم صمدتم معي. شكرا لكم لأني طيلة هذه السنين لم أسمع منكم ولو كلمة عيب واحدة». حين كان سي محمد البريني يرفع تحية الوفاء هاته إلى «أبنائه» في قلعة «الأحداث المغربية» الشامخة، والدمع يهمي مدرارا، والغصة تختلج في الحلق من أثر اللحظة، كانت كل الأسماء والوجوه التي عبرت الجريدة أو لبثت فيها، حاضرة هنا. من أجله التمّت الأسرة بكامل مشمشها. وطيلة حفل التكريم عشية الجمعة المشهودة، في قاعة الاجتماعات الكبرى، بالطابق الثالث من البناية الزجاجية الشهيرة، ظلت العيون معلقة بقيدوم الصحافة المغربية. لم يمنع الرجل دموعه من قول ما لا يقال. كعادته، بروح الطفل الذي بقي يسكنه ويمنحه تلك القدرة التي لا تلين على اللعب مع الرياح من أي جهة هبت، كان سي محمد البريني يفصح بجُماع الجسد عن تأثره، لا بمغادرة السفينة التي كان ربانها، إذ سيظل الرئيس المؤسس، وصاحب الإطلالة الأسبوعية الموسومة ب«صراحته» المعهودة، بل بهذا الحضور الوارف من الصحافيين والعاملين، الذين أبوا إلا أن يلتفوا ب«الأب» وهو يختار، في عامه الرابع والسبعين، أن يرتاح قليلا من أثقال رحلة طويلة وشاقة في دروب مهنة المتاعب الشريفة. الكل كان هنا. بدءا من رئيس مجلس الإدارة مراد بكوري وسمْيه مولاي أحمد الشرعي إلى أصغر عامل في المؤسسة. والحق، أن الفصاحة التي تحدث بها مراد بكوري عن المحتفى به، لم تُفض دمع محمد البريني فحسب، بل جعلت الكل يعيد اكتشاف الرجل ويقيس قامته الحقيقية، تلك التي قد يُظلّها اللقاء اليومي به في دوامة العمل الجهنمية. كان رئيس مجلس الإدارة، مستعينا بثقافته الموسوعية وبلاغته العالية، يعيد رسم صورة هذا الذي صنع مجده وأعلى اسمه في مدونة الصحافة الحزبية والمستقلة معا. كانت لحظة صعبة بحق، تلك، التي قال عنها المختار لغزيوي، زميلنا وحامل مشعل خلافة الرجل الكبير على رأس إدارة «الأحداث المغربية»، «لا نتصور شكلها حين ستحل». لكنها حلت في الأخير وسي محمد في كامل صحته وفي بهاء دموعه، يقف في قلب المجمع ليقول كلمته، وتختنق العبارة في حنجرته، وتفيض عبرات تأثره وهو يشهد هذه الأسرة المديدة التي كان له الفضل في تكوينها على مدار 16 سنة. بعض الضيوف تأثروا لبكاء الرجل الذي لم يروه إلا ثابت القسمات، منتصرا لما يقول، واثقا من نفسه لدى كل ظهور تلفزي له، ثم سرعان ما اكتشفوا الوجه الآخر الخفي منه. عاينوا كيف كان الاستقبال في حجم مكانته، الزهور أحاطت بسيارته منذ ركنها أمام مقر الجريدة، التي لم يزرها منذ شهرين، والكل يقترب من الجسد الصحراوي النحيف، لكن صلب العود، وهو يدير عينيه مغتبطا في الوجوه ولسان حاله يقول، لم يضع شيء مما صنعت. لم تكف أرواحهم عن التحليق لحظة في حفل تكريم محمد البريني. كانت أطيافهم تحرس المكان هم الذين أسسوا للتجربة من لحظة البدء ورافقوها في أعصب الأوقات. وفي الطليعة الكبير مصطفى القرشاوي، المناضل الاتحادي الحقيقي والصحافي النزيه والمثقف الموسوعي، وصاحب الدعم اللامحدود والأيادي البيضاء على تجربة «الأحداث المغربية». وبالفعل، لم يبخل عاشق الفلسفة هذا على التجربة الفريدة والأولى من نوعها في مجال الصحافة المستقلة منذ أن انطلقت بمغامرة مفتوحة على المجهول إلى أن غيبه الموت مأسوفا عليه في السابع والعشرين من 2005. الكبير الآخر الحاضر دوما في وجدان الصحافيين والعاملين بالجريدة لم يكن إلا سي محمد مؤيد. الحكيم الصامت والمناضل العنيد، الذي قاسى الاعتقال أيام سنوات الرصاص ورفض التعويض المادي فيما عرف ب"جبر الضرر" قائلا قولته الشهيرة "ما ناضلنا من أجله كان لوجه الله ومن أجل هذا الشعب". لم يكن مجرد رئيس تحرير ل«الأحداث المغربية» فحسب، بل كان يتمتع بكل خصال الأبوة. لم يسىء يوما لأحد. فقط بهدوئه وابتسامته ونظراته الدالة كان يوصل ما يريد دون حاجة إلى كلام. وقد كان مرضه المفاجىء ورحيله وهو في كامل لياقته مفجعا للكل. الروح الأخرى التي لم تفتأ تظلل مكان الاحتفال بحضورها الهفهاف كانت تحمل اسم لطيفة بوسعدن، التي رحلت قبل سنتين مخلفة جرحا غائرا في قلوب من عرفوها عن قرب من زميلاتها وزملائها. لطيفة، الصحافية السياسية التي بدأت مشوارها مع «الأحداث المغربية» وغادرتها في لحظة صعبة ظلت دوما حاضرة في الذاكرة والوجدان معا. ومثلها خالد سنينة، الوديع والإنساني في كل اللحظات والمفعم قلبه بالمحبة، كان صاحب قلم إبداعي بحق حتى وهو يشتغل في مجال الصحافة الرياضية الذي لا يحتمل سوى الخبر "ناشفا". كان يكتب بنفس الحب الذي يكنه للمهنة وللحياة والناس. أما آخر هذه الأرواح الحاضرة في تكريم محمد البريني فلم يكن سوى ذلك الشاب الذي أدمى القلوب وهو ينطفىء بسرعة. عبد الكريم المسكاوي، أحد جنود الخفاء الذي التحق بمطبعة «الأحداث المغربية» عام 2000 وعاش معها التحول الكبير ثم فجأة أصيب بمرض كان يمكن تجاوزه لولا خطأ في التشخيص كلفه حياته. رحم الله جميع من أعطوا ل«الأحداث المغربية» من أعماقهم وهي على العهد لأرواحهم وذكراهم.