لم يكن ترؤس جلالة الملك محمد السادس أول أمس الإثنين بأبيدجان، حفل افتتاح المنتدى الاقتصادي الإيفواري المغربي، مجرد إجراء بروتوكولي، فقد تم اختيار الإطار والشكل بعناية ديبلوماسية يكون من شأنها إبراز ابتكارات النموذج المغربي للتنمية في إفريقيا، عبر خطاب تميز بالصراحة تجاه الحلفاء التقليديين لبدان القارة، وبالتجديد والإبداع في المفاهيم التي ظلت لسنوات طوال مؤطرة لأشكال التعاون الدولي مع بلدان القارة السمراء. وبالفعل فقد طرح الخطاب الملكي نموذجا مبتكرا و أصيلا للتنمية في إفريقيا، يقطع مع النماذج و التصورات التي كانت تأتي، منذ ستينيات القرن الماضي، من خارج القارة، لتعيد إنتاج مفاهيم تنموية ماضوية أثبتت عجزها في مسايرة التطور الذي تشهده القارة السمراء منذ بداية الألفية الجديدة. وأول العناصر التي يقوم عليها هذا النموذج التنموي هو أن تتخلص إفريقيا من رواسب الماضي، وأن تستعيد ثقتها في إمكاناتها و مواردها، وفي ما تزخر به من كفاءات بشرية متوثبة. ومن هنا، شدد جلالة الملك على أن إفريقيا «لم تعد قارة مستعمرة»، بل قارة حية، ليست في حاجة لمساعدات إنسانية، بقدر حاجتها لشراكات ذات نفع متبادل ولمشاريع التنمية البشرية والاجتماعية. فإذا كان القرن الماضي، يقول جلالة الملك، بمثابة قرن الانعتاق من الاستعمار، بالنسبة للدول الإفريقية، فإن القرن الحادي والعشرين ينبغي أن يكون قرن انتصار الشعوب على آفات التخلف والفقر والإقصاء، ومواجهة العديد من التحديات التي تهدد الاستقرار السياسي في إفريقيا، و تعيق النمو الاقتصادي و الاجتماعي بها، و ذلك من خلال التعاون والتضامن بين الشعوب الإفريقية، واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية. كما أن إفريقيا – يضيف خطاب جلالة الملك – « مطالبة بالاستفادة من كل الطاقات التي تزخر بها، دون أن تعيش في عزلة عن العالم. ومن هنا، فهي مدعوة لمضاعفة الشراكات المثمرة مع الدول المتقدمة، التي تبدي اهتماما دائما، والتزاما صادقا، وانخراطا ملموسا، من أجل الازدهار الاقتصادي لإفريقيا، وتنميتها البشرية». و أكد جلالته أنه إذا كانت إفريقيا ستواصل، في إطار انفتاحها، تطوير علاقاتها المثمرة مع الدول التي تربطها بها أواصر تاريخية عميقة، وتجمعها بها الكثير من عناصر التقارب والانسجام، فإنه من الضروري، أن تتم، في الوقت الراهن، «مواكبة هذه العلاقات، بعمل يتسم بالمصداقية وبالالتزام القوي. ذلك أنه لا مجال للحديث عن المكاسب الثابتة، أو عن المعاقل الحصينة، التي هي حكر على أحد دون غيره، فقد أصبح من الوهم الاعتقاد بعكس ذلك." و من منظور جلالة الملك، فإن « التعاون الذي كان يقوم سابقا على روابط الثقة والوشائج التاريخية، أصبح اليوم يرتكز، أكثر فأكثر، على النجاعة والمردودية والمصداقية»، ذلك أن « النجاعة تعطي ثمارها على الدوام. كما أنها تعد الضمانة الحقيقية لبلوغ نتائج ملموسة، وتحقيق تطور قابل للقياس، واكتساب القدرة على الاستجابة للتطلعات، فضلا عن كونها تكفل الجودة، وتسهم في ترسيخ الثقة» فيما تقتضي المصداقية «تسخير الثروات التي تزخر بها قارتنا، في المقام الأول، لصالح الشعوب الإفريقية. وهو ما يستوجب وضع التعاون جنوب-جنوب، في صلب الشراكات الاقتصادية بين بلدانها». و من هنا شدد جلالة الملك على أن إفريقيا مطالبة، اليوم أيضا، بالاستفادة من الفرص التي يتيحها التعاون الثلاثي، كآلية مبتكرة، لتضافر الجهود والاستثمار الأمثل للإمكانات المتوفرة. و أعرب جلالة الملك، في هذا الصدد، عن استعداد المغرب، الذي كان رائدا في هذا النوع من التعاون، « لجعل رصيد الثقة والمصداقية، الذي يحظى به لدى شركائه، في خدمة أشقائه الأفارقة، فمن واجبنا الجماعي أن نجعل من العولمة قوة إيجابية في خدمة التطور في إفريقيا. وهو ما يجعل من النمو الاقتصادي، والتبادل التجاري، والاندماج الإقليمي، مواضيع ذات مكانة جوهرية". و استحضر جلالة الملك الدور الذي يضطلع به القطاع الخاص في تحقيق التنمية المستدامة في القارة الإفريقية، وهو الدور الذي يفرض عليه توجيه ديناميته وقدرته على الابتكار، نحو المجالات الواعدة، مثل الفلاحة والصناعة والعلوم والتكنولوجيا وتطوير البنيات التحتية. غير أن جلالته شدد على أن ذلك لن يتأتى إلا بتحرير الطاقات، وتعزيز المبادرة الخاصة، وهو ما يقتضي وجود قطاع عام فعال وواعد وذي كفاءة، و تكثيف الشراكات بين القطاعين العام والخاص، في إطار التعاون جنوب-جنوب، ونقل التكنولوجيا، مؤكدا أن تعزيز القدرات المؤسساتية للبلدان الإفريقية، يشكل رهانا استراتيجيا يجعل الحكامة الرشيدة، والتطور في نطاق القانون، فضلا عن تسوية النزاعات بالطرق السلمية، من الأولويات المشتركة لدول القارة. غير أن جلالة الملك اعتبر أن تحقيق إفريقيا لسعيها نحو الازدهار والرفاه سيكون أكثر يسرا، «إذا تمكنت من التخلص من كل أعبائها» و إذا تمكنت «من الانتصار على اليأس الإفريقي، من خلال تحرير الطاقات الفكرية والبدنية، للقوى الحية للشعوب الإفريقية". و بنبرة مفعمة بالتفاؤل، قال جلالة الملك إن التطلع إلى إفريقيا متطورة ونشيطة ليس مجرد حلم، بل يمكن أن يكون حقيقة، شريطة الالتزام بالعمل و المبادرة، اللذين يمنحان للممارسة السياسية مصداقيتها، ويتيحان تحقيق الأهداف المنشودة.