اختار وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأستاذ أحمد التوفيق عنوان: “أي سياسة للعلماء؟” لدرسه الافتتاحي ب”مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية”، والذي يسهر عليه بوجدة، الأستاذ مصطفى بنحمزة بكليانيته المعروفة التي لا تقبل الاختلاف. وفي انتظار أن نفرد لهذه المداخلة وقفة خاصة، لابد- قبل تحرير ما نحن بصدده اليوم- من إبداء ملاحظتين: الأولى وتتمثل في التفاعل الإيجابي جزئيا، مع موقف النسيج الجمعوي بوجدة بشأن الأرض الحبسية التي شيد عليها هذا المركز وبمطلب تحبيسه، وبشأن الوظيفة الأصولية المفترضة لهذا المركز في سياق ما يسمى ب “أسلمة” الفكر والعلوم، حيث اختار عاهل البلاد تدشينه يوم خميس، بمعزل عن يوم الجمعة كيوم للأنشطة الدينية، وتم هذا التدشين في غياب حضور السيد وزير الأوقاف، للتأكيد على طابعه المدني والتنموي الصرف. ولا نستبعد في ظل هذه المقاربة حل الإشكال المرتبط بالإطار القانوني والتدبير الإداري لهذا المركز، بما في ذلك وجوب توثيق الصفة الحبسية لهذا المركز. الملاحظة الثانية، وتتمثل في حرص وزير الأوقاف من خلال عنوان هذه المداخلة، مساء يوم الجمعة 3/6/2011، وبكل الإجراءات المصاحبة، على إعطاء هذا المركز بعدا دينيا، في سياق التمكين الرسمي للأصولية. ولعل ذلك ترجمة لاسم هذا المركز الفرعي “منار المعرفة”، أي منار “إسلامية المعرفة”، حتى لا نقول، منار حزب الله، وبذلك يكون مركز بنحمزة بتوجهه الإخواني، يمثل أحد فروع “المعهد العالمي للفكر الإسلامي”. فبدت لاسمي هذا المركز الأصلي والفرعي مقتضيات على أكثر من مستوى، تبدو معها وزارة الأوقاف، في موقع النقيض مع قصد المحبسين، ومع منطق الدولة في خياراتها المذهبية. عنوان مداخلة الأستاذ التوفيق “أي سياسة للعلماء؟”، يطرح السؤال التالي: أية سياسة لأي مقام؟ وهو ما حملنا على أن ننحت عنوان اليوم: أي مقام لأي سياسة مندمجة؟ أعتقد أن جانبا من الإجابة عن هذا السؤال سنقف عليه من خلال “مقام” العلماء المفارق لكل شيء، كما سطره، الأستاذ التوفيق في حواره مع يومية “الصباح(13/5/2011) من خلال فقرتين : الأولى بقوله: “هناك فرصة سانحة لمن تخصص في الدين ويرى نفسه عالما فيه، إذا أراد، أن يتكلم بأسلوب السياسة أو الإعلام أو البحث الفكري، وذلك بأن ينخرط في المنبر السياسي أو الإعلامي الذي يروقه ويتكلم فيه بأسلوبه. وحتى إن ادعى أنه عالم فلا أحد ينازعه. أما العلماء المنتدبون لتأطير الأمة، فهم منتدبون في إطار حماية الملة والدين، ومسؤوليتهم على من انتدبهم بمقتضى الأمانة التي هو مطوق بها. أما “التحرش بالمؤسسة العلمية”، التي اختار أعضاؤها بمحض إرادتهم، وبلا خداع، تأطير المواطنين في إطار الثوابت، ومن ضمنها إمارة المؤمنين، فإن هذا التحرش يدل على قلة ورع ديني من جهة، وعلى تخلف سياسي من جهة أخرى، لأن منابر الإصلاح اليوم تعددت، ومحاولات الخلط بين الأساليب غير مقبولة.”. أما الفقرة الثانية فبقوله:”ارتأى العلماء أن يصدروا بيانا في موضوع الاستشارات الوطنية حول الإصلاحات. وقد أصدروه وكان واضحا، وركز على ما يهمهم على الخصوص، وهو المضمون التعاقدي لإمارة المؤمنين، ولكن العلماء الذين ينضوون في مؤسسة يرأسها أمير المؤمنين ليسوا طيفا اجتماعيا من بين الأطياف الأخرى، لكي يستدعوا من الجهة المختصة للاستماع أو لتسليم مذكرة، بل إنهم معنيون بتفسير الثوابت الشرعية التي تهم الجميع.”. كلام الأستاذ التوفيق جاء في مجرى رد الجميل لعلماء المجلس العلمي الأعلى، يوم منحوه تعاطفهم، عقب انهيار مسجد مكناس. لذا يبدو هذا الكلام، في إطار الدفاع عن العلماء متماسكا بعض الشيء، في منطقه الداخلي، لكنه في سياق إنتاجه وفي موقع الارتخاء على شبكة الدعم الأصولي، يتطلب الدخول معه في حوار من خلال هذه النقط الست: 1- من المقصود بكلام الأستاذ التوفيق؟ هل صديقه الأستاذ عبد المجيد الوكيلي الخطيب والإعلامي والسياسي من خلال محاولة تأسيس “الاتحاد الوطني لعلماء المغرب”؟ هذا ما يفيده ظاهر الحوار، وقد سبق تعليقه على تأسيس الوكيلي لهذا الإطار. فإذا كان هذا هو القصد، فهو من باب أولى وأحرى يشمل شيخ الوكيلي، الأستاذ بنحمزة الذي انتفض ضد القناة الثانية، لما استضافت في برنامج “مباشرة معكم”، المرحوم محمد أركون وآخرين، وليكتب عقب ذلك في “التجديد” وبعقلية شمولية :”مباشرة ضدكم”، في اتهام مباشر لهذا البرنامج بوقوفه ضد الإسلام، حسب فهم الأستاذ بنحمزة الكلياني للدين. ويشمل هذا القصد المفترض أيضا معظم تركيبة المجالس العلمية التي تصادر على مطلوب الحركة الأصولية. لكن الأستاذ التوفيق، وهو يرد بكيفية غير مباشرة على من انتقد البيان السياسي للمجلس العلمي الأعلى حول الإصلاحات الدستورية بقوله: “مسؤوليتهم على من انتدبهم”، ليعتبر هذا النقد بمثابة “التحرش بالمؤسسة العلمية”، فهذا ما لم يقم به الأستاذ الوكيلي، فيكون المقصود بكلامه طرفا آخر. وهنا أستحضر ما يقوله الشيخ ابن عباد في رسائله الكبرى نقلا عن الشيخ السلمي:” من عيوب النفس أن يكون العبد في محل الشكر وهو يظن أنه في مقام الصبر، لأنه مأمور بالترقي في المقامات.” وتحت هذه العبارة في تنزيل هذه الحالة دلائل وعبر، وفي طليعتها هذا الامتحان الشامل لسمت الصلاح المفترض في الجميع. 2-حديث الأستاذ التوفيق عن” التحرش بالمؤسسة العلمية” وتكراره للفظ التحرش، غير موفق بالمرة، بالرغم من وعينا بأن معجم البحث والتواصل يغتني دلاليا بعبارات من حقول الصناعة وعلوم الحياة والأرض والرياضيات والفزياء، والعلوم الإنسانية... كان بالإمكان استبدال لفظ التحرش بالتقول والافتيات والاستفزاز والمناوشة والتهجم. ربما لا تفي هذه العبارات بشحنة الليبدو في كلمة التحرش، لذلك وقد تم الانزعاج مما يسمى بالتحرش بالعلماء، وقد تحول الحقل الديني إلى ورش كبير للتحرش، لماذا لم يتم هذا الانزعاج لما “تحرش” العلماء بالأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية، وبصلاحيات صاحب الأمر الدينية، وقد انضاف لهذا التحرش الأخير السادة سعد الدين العثماني وأحمد الريسوني ومحمد المغراوي؟ لماذا لم يحصل هذا الانزعاج لما تحرشت الأصولية بالفتوى ورسالة المساجد؟ ألا يضمر الكلام عن هذا التحرش ترتيبات فيها من الانزياحات ما فيها؟ 3-تتويج الأستاذ التوفيق اتهامه لمن انتقد بيان العلماء، بقلة الورع الديني والتخلف السياسي، حكم القيمة هذا يطيح بأحلامنا في أن تكون وزارة الأوقاف في طليعة التبشير بالقيم، لكن يظهر أن مسحتها الصوفية، تنمحي عند أول استحقاق في تدبير الاختلاف، ليبرز الوجه الأصولي فيها، ولعل هذا هذه المرة، من تأثيرات رؤية الشيخ ياسين، للحوار مع من يسميهم بالفضلاء الديمقراطيين . 4-إن تصوير الأستاذ التوفيق، العلماء على أنهم “منتدبون في إطار حماية الملة والدين”، وأنهم اختاروا، “بمحض إرادتهم وبلا خداع تأطير المواطنين في إطار الثوابت”، هو تغطية على واقع غير مطمئن، سيعصف لا قدر الله بالمغرب لا محالة، إن لم يتم لطف تدارك ذلك، فأصوليو المؤسسة العلمية من التيار وهابي، وحركة التوحيد والإصلاح، والعدل والإحسان، متواجدون من منطلق اقتناع الدولة بسلامة توجهاتهم كما يدعون، ومن ثم فهم يؤطرون المواطنين باختياراتهم الإديولوجية التي لا علاقة لها باختيارات المغاربة. هذه هي الحقيقة المرة، ويجب التعامل معها باقتدار، وليس من منطلق سياسة دفن الرؤوس في الرمال، وبجرأة قلب الأعيان والحقائق. 5- إن اعتبار الأستاذ التوفيق مسؤولية العلماء “على من انتدبهم بمقتضى الأمانة التي هو مطوق بها”، وأن مناقشتهم ترتقي إلى مستوى “التحرش بالمؤسسة العلمية”، وبكل أحكام القيمة المصاحبة، هو محاولة بائسة لإعطائهم حصانة صاحب الأمر/أمير المؤمنين من جهة، ومن جهة أخرى تحميله مسؤولية أخطائهم، وفيها ما هو جسيم. وهذا لا يمكن أي يقول به منطق التشريف فأحرى منطق التكليف. هذه محاولة لإقحام أمير المؤمنين في هذه المعادلة المغلوطة لترهيب كل محاولات فضح المخطط الأصولي في المؤسسة العلمية. وهنا نستحضر المبادرات الرسمية التي حاول فيها هؤلاء استدراج، صاحب الأمر إلى موقع تبييض الفكر الأصولي، والمواقع الأصولية في الحقل الديني. 6-كنا نتمنى لو جاء بيان العلماء وفق ما ذكر الأستاذ التوفيق، لكنه جاء ليمارس الوصاية على أمير المؤمنين والأحزاب السياسية والمنظمات الحقوقية والشبابية. وقد مارس مجلس العلماء قناعته السياسية المطابقة للأصولية من خلال جمعية خريجي دار الحديث الحسنية، كما أن علماء هذا المجلس يمارسون “تفسير الثوابت الشرعية”، على أرضية الحنبلية الفقهية والعقدية والسلوكية. هذا هو واقع الحال ، وتجاوزه الواعي لا يحتاج إلى لغة الخشب، بل يحتاج أولا إلى تواضع العلماء العاملين. ودفعا لكل التباس، نتمنى لعلماء البلاد، في أي موقع كانوا، زعامة المتقين في مقامات الدين، وليس في مقامات السياسة. لكن قبل ذلك لابد أن تكون دعامة اليقين لهذه الزعامة مصوغة هنا في المغرب لا خارجه، هذا هو إسمنت اللحمة الوطنية، في إطار التكامل الوظيفي مع المؤسسات الأخرى. وعلى الله قصد السبيل.