ملاسنات بين المارة ومستعملي الدراجات النارية والهوائية، والعربات المدفوعة. السير بحذر وترقب مخافة الاصطدام بسائق متهور.. وما أكثرهم. التخوف من سلك كهربائي مسلط على رؤوس المارة.. هكذا يبدو المشهد داخل قنطرة النسيم التي يضج عرضها الذي لا يتجاوز المتر ونصف بحركة مستمرة تجمع بين الراجلين والسائقين، لتزيد من حنق السكان اتجاه القنطرة التي يطلق عليها اسم "تيشكا" بسبب مسالكها الملتوية وهندستها الغريبة التي لم تراع الكثافة السكانية للمنطقة، وغياب منفذ بديل لأصحاب الدراجات والعربات المجرورة، لتصبح عملية المرور واجبا ثقيلا يضعك أمام عدد من المفاجآت غير المرحب بها. بعد عناء يوم طويل من العمل داخل بيت أحد الأجانب بشارع محمد الخامس، تتوجه حادة بخطى منهكة يثقلها حمل قفتها نحو الحافلة رقم 7 المتجهة من وسط المدينة إلى أقصى المدينة .. حيث حي النسيم. تنتظر المرأة الوصول بفارغ الصبر في رحلة قد تدوم أكثر من ساعة ونصف خلال أوقات الذروة. «القنطرة المشؤومة».. تحصد الاستنكار اليومي بعد الوصول إلى خط النهاية، تواجه المرأة عقبة جديدة تجعل من حياتها ترجمة فعلية لأسطورة سيزيف المجبر على صعود الجبل مثقلا بصخرته، لتضع العجوز خطوتها الأولى داخل "القنطرة المشؤومة" وفق تعبيرها، وهي تتأفف من حمل قفتها التي تضم بعضا من أصناف الطعام التي حضرتها داخل بيت مشغلها، إلى جانب بعض المعلبات والمشروبات. أجبرت هندسة القنطرة العجوز على التوقف أكثر من خمس مرات، لتسمح للدراجات النارية والهوائية بالمرور، «هذا حالنا من نهار تبنات هاد القنطرة، واش هاد الناس مفكروش لعباد الله الكبار في السن»، تقول المرأة التي اختصرت عباراتها قصة فئة من نساء النسيم اللواتي يشتغلن كعاملات داخل بيوت الأجانب، أو بعض الأسر المغربية الميسورة الموجودة بوسط المدينة. كان من السهل جدا على جريدة «الأحداث المغربية»، أن ترصد ما يشبه الترنيمة الموحدة التي يرددها جل العابرين للقنطرة، وهم يرددون نفس الاستنكارات، «لاش دارو لينا هاد العجب».. «آش بغاو عندنا»… هكذا تبدو العبارات الأكثر لباقة، في الوقت الذي تشتد فيه عبارات السب والشتم بين صفوف من نال منهم الصيام، وأعلنوا حالة "الترمضين"، «واش بغيتي الحبس.. هو اللي غادي نوصلو ليه» يقول شاب اشتعل مزاجه فجأة بعد أن كادت إحدى الدراجات النارية أن تصدمه، ليدخل الطرفان في صراع لفظي، وظف فيه سب الملة والدين. تتزاحم المشاهد، وكأن الشخص لبث في القنطرة دهرا، « خليونا ندوزو لديورنا الله يرضي عليكم أولدي» تقول حادة التي لم يكتب لها بعد الخروج من القنطرة، بعد أن تسبب النزاع بين الشابين في إعاقة الممر الذي لا يتجاوز عرضه المتر ونصف. بانتظار فض النزاع، وصلت إلى مكان التجمع وسط القنطرة، مجموعة من النساء من معارف حادة. تحمل كل واحدة منهن قفة. تتشابه ملامحهن المنهكة، وعباراتهن الداعية بالفرج، «الله يفرج علينا هاد الكربة اللي دارت لينا هاد القنطرة.. لاش بناوها» تقول المرأة التي أحيت في الحاضرات جرحا أعمق، « لاش جابونا هنا أصلا النهار الأول» تعلق أخرى بعد أن أرهقها المرور اليومي من القنطرة، وأحيا فيها الحنين لمسقط رأسها بالمدينة القديمة، حيث كان محل عملها على بعد خطوات من منزلها، لتجد نفسها تنتقل من المدينة القديمة، نحو الجنوب الغربي بضواحي الدارالبيضاء، رضوخا لمشروع التهيئة الحضرية لمحيط مسجد الحسن الثاني. يبدو أن السنوات لم تنس أهل النسيم غصة الانتقال من قلب العاصمة إلى ضواحيها، وكذلك لم يسقط المرور اليومي فوق القنطرة حالة الاستياء التي تعيشها الساكنة، « أشعر بآلام في ركبتي كلما مررت من هنا، وكذلك كل النساء في سني، فبعد أن كنت أعبر الممر السككي السابق في وقت قصير، أصبحت مضطرة للنزول، والصعود، والالتفاف أكثر من مرة داخل هذه القنطرة» تقول حادة التي تمكنت أخيرا من الوصول إلى "مملكة النسيم". مراوغة يومية بين الدراجات والراجلين تتكشف عورات القنطرة بعد كل مرور. « الله يحضر السلامة.. يا ربي تسترنا ياربي»، تردد مجموعة من النساء اللواتي رفعن من وتيرة خطواتهن وسط القنطرة، رغم مشيتهن المتثاقلة في بداية القنطرة. يتكشف السبب بظهور خيط كهربائي مسلط فوق رؤوسهم، مما يثير الرعب في قلوب المارة، بسبب قصر المسافة الفاصلة بينه وبين المارة. «هؤلاء يتعاملون مع أرواح الناس بنوع من اللامبالاة .. يقدر دري صغير يحط ايدو على الكابل، ولا شي نهار توقع شي حاجة والناس دايزين من هنا» تقول إحدى النساء بعد أن ظهرت على وجهها ملامح الخوف، ليعود لها جزء من الاطمئنان بعد الابتعاد عن مكان الخطر، مفسحة المجال لتخوف عابر جديد يوزع نظراته ما بين الخيط الكهربائي المعلق، ومابين الدراجات النارية التي تقتسم معه مساحة القنطرة. مشكلة الدراجات تبدو أكثر إزعاجا للطرفين، حيث يفضل ركاب الدراجات المرور من القنطرة لربح الوقت، مسببين بذلك نوعا من الفوضى داخل القنطرة، حيث يتصادف أن تمر دراجتان في الاتجاه المعاكس، أو مرور دراجة بسرعة دون اكتراث للمارة. الرغبة في اختصار الوقت والمسافة تعرض أصحاب الدراجات أيضا للاستياء، حيث يضطر الراكب إلى الترجل عند كل منعطف داخل القنطرة، أو التخفيف من سرعته بطريقة متواصلة تجنبا للاصطدام، في الوقت الذي لا يكترث بعض السائقين لهذه الخطوات الاحترازية مما يرفع من استياء المارة الذين طالب بعضهم بضرورة منع الدراجات النارية والهوائية والعربات المجرورة من المرور داخل القنطرة. عشر دقائق من الانتظار.. بدل عشرة خطوات خلال المرور داخل القنطرة الذي يستغرق ثلاث دقائق من المشي المتوسط، أو ما يفوق ذلك لكبار السن، ترتفع وتيرة الملاسنات بين المارة وسائقي الدراجات، أو بين أصحاب الدراجات ممن يوشك بعضهم أن يصطدم ببعض على مستوى المنعرجات التي يتخذ كل طرف كامل حذره وحرصه عند الوصول إليها، ليضطر المارة إلى الانزواء بزاوية ضيقة حتى يتم المرور الآمن. تغيب نسبة الأمان عندما يكون الملتقيان من جنس دراجة وعربة مجرورة تسد مساحة عرض القنطرة التي لا تتجاوز المتر ونصف، «راك ضربتيني أبنادم».. « نتا اللي جاي خارج عندي تسناني حتى ندوز»، يقول الشابان وهما يتبادلان التهم بعد أن تعنت كل واحد منهما في إفساح الطريق إلى الآخر. انتهت لغة الكلام، ليمسك صاحب عربة الفواكه بثياب صاحب الدراجة ساحبا منه فرصة النزول من دراجته التي علقت بين جدار القنطرة وعجلات العربة المجرورة، لتتوقف حركة المرور وتعلو أصوات المارة مطالبين بإفساح الطريق، «غير بردو الدم وخليو بنادم يدوز»، «راه باغين نمشيو لديورنا» يقول الأشخاص الذين وجدوا أنفسهم عالقين داخل القنطرة لمدة قاربت العشر دقائق. تراجعت النساء إلى الخلف مخافة وصول ضربة طائشة من أحد المتخاصمين الذين يتوعد كل واحد منهما الآخر، قبل أن تنشب ملاسنات أخرى عند نهاية التجمع، «سير أبنادم خلينا ندوزو» يقول شاب بعصبية وهو يمتطي دراجته النارية موجها خطابه لسائق آخر متوقف أمامه، «فين غادي ندوز راه الطريق محبوسة، جوج ديال البشار مهازين» يجيب السائق الذي لم تقنع عبارته السائق العصبي الذي شرع في الضغط على المنبه مما أثار عصبية الطرف الآخر الذي دخل معه في ملاسنات لم يفلح الحاضرون في إيقافها، بانتظار نتائج محاولات فض النزاع بين صاحب العربة المجرورة وسائق الدراجة النارية. نجح بعض الشباب في تهدئة صاحب العربة التي تحولت لما يشبه السد الفاصل بين المنتظرين القادمين من جهة سيدي معروف، والقادمين من جهة النسيم. دفع عربته مواصلا وعيده، ليتمكن المتجمهرون من العبور في حذر بعد أن تدفقت الدراجات النارية في محاولة لتجاوز المارة. «واش مكتشوفش راك ضربتيني» تقول امرأة تحمل رضيعها في ظهرها، بعد أن تلقت ضربة غير مقصودة على جنبها بواسطة مقود الدراجة التي مر صاحبها دون اكتراث لصراخها. أيقنت أن الصراخ لا يجدي أمام ضجيج المحركات، لتقرر الالتصاق بسياج القنطرة بانتظار مرور الدراجات، لتفاجأ بسقوط قبعة طفلها من أعلى القنطرة. اكتفت بالنظر إليها من بعيد، مفكرة في المسافة التي ستقطعها بعد النزول من القنطرة لاسترجاعها، في حال ظلت في مكانها، «هاد الشي اللي ربحنا مع هاد القنطرة» تقول المرأة بنبرة غاضبة. "الدراري .. خلاو الدولة تشد معانا الضد" بعد وصول صاحب العربة المجرورة إلى "الضفة الأخرى" حيث سيدي معروف، توقف قليلا ليسترد جزءا من أنفاسه، غير أن بعضا من رجال الشرطة الموجودين بالمكان لم يمهلوه التوقف طويلا، «أحايد السي من تم» يقول الشرطي الذي لم يستسغ توقف العربة بجانب القنطرة. واصل الرجل دفع عربته بعيدا عن المكان الممنوع، الذي كان في الماضي القريب مفتوحا أمام شباب النسيم لعرض بضاعتهم، مستغلين الكثافة التي تعرفها المنطقة بعد خروج العاملات بالشركات المواجودة بالمكان، وحتى الذين اختاروا البقاء داخل حدود النسيم، كانت المسافة الفاصلة بين الحيين تسمح للبعض بالوصول إلى الباعة في وقت لا يتجاوز العشر ثواني، لكن الأمور اختلفت بعد أن أصبحت القنطرة عائقا أمام وصول النساء والشباب ممن يطمعون في رواج موسمي خلال رمضان. « الله يهدي الدراري وصافي، هما اللي خلاو الدولة تشد معانا الضد .. تعداو على البوليس بالحجر » تقول إحدى النساء التي تعتقد أن الحي يعيش شبه عزلة كنوع من العقاب بعد حالة الشغب التي عرفتها القنطرة، والتي انتهت بوقوع إصابات بين صفوف رجال الأمن، واعتقال 13 من ساكنة النسيم، ممن وجهت لهم تهمة التخريب وإتلاف الممتلكات. تواصل المرأة توجيه اللوم لشباب المنطقة، «صحيح أن طريقة بناء القنطرة لا معنى لها، وتكاد تتسبب في حوادث شبه يومية بين المارة والسائقين، إلا أن سكان الحي تأخروا كثيرا في الاحتجاج لمنع أشغال القنطرة بعد أن صرفت عليها الكثير من الأموال… فات الفوت دابا» ،تقول المرأة بنبرة المستسلم للأمر الواقع، مكتفية بعرض بضاعتها من "البغرير" داخل حي النسيم، بعد أن أصبح من الممنوع عليها عرض بضاعتها في الجهة المقابلة من القنطرة حيث نفوذ منطقة سيدي معروف، كما أصبح من الصعب عليها حمل بضاعتها والتوجه داخل سيدي معروف، «صحتي لا تسعفني على هذا الأمر» تقول المرأة الخمسينية. السمعة السيئة .. تدفع الفتيات لتحاشي الساعات المتأخرة من التهم الملصقة بهذه القنطرة السيئة السمعة، هناك غياب الأمن، حيث أشار بعض الجمعويين إلى أن القنطرة تشكل خطرا على الساكنة خلال الساعات المتأخرة من الليل، حيث يتحول محيطها إلى مكان لتجمع المتشردين، وبعض متعاطي حبوب الهلوسة مما يثير غضب الساكنة وتخوفهم. آراء بعض من التقتهم "الأحداث المغربية" داخل حي النسيم، لم تكن بنفس سوداوية آراء الجمعويين الذين ركزوا على الجانب الأمني، « السرقة موجودة في أي مكان، وليست حكرا على القنطرة فقط، شخصيا أمر من هنا يوميا ولم يسبق لي أن تعرضت للسرقة، أو رأيت شخصا يتعرض لها، لكن المشكل في طول المسافة التي تزيد من تعب الناس بعد يوم عمل طويل، وفي الرعب الذي تبثه الدراجات النارية التي لا تحترم المارة، حيث يسيرون بسرعة، ولا يجبرون على التخفيف من السرعة إلا عند الوصول إلى أماكن الالتفاف المنتشرة على طول القنطرة»، يقول أحد الساكنة. مريم فتاة في التاسعة عشرة من عمرها، لم يسبق لها أن تعرضت للسرقة بمحيط القنطرة، لكنها لا تخفي أنها أصبحت مجبرة كالعديد من الفتيات، على تحاشي عبور المكان في ساعات باكرة أو متأخرة، «لا يمكنني المخاطرة بالمرور وحيدة عندما يكون المكان فارغا، لأن المسافة طويلة جدا، ومن الممكن أن تصادف لصا، أو منحرفا.. أفضل عدم المغامرة» تقول الفتاة. مصادر أمنية رفضت الكشف عن اسمها، أشارت إلى أن التهويل من الهاجس الأمني لا يستند لأية معطيات ميدانية، لكون القنطرة تقع تحت نفوذ دائرتين أمنيتين مما يجعل السيطرة على الجانب الأمني أمرا متاحا دون خروج الوضع عن السيطرة كما يروج البعض…. سكينة بنزين