لمقاربة موضوع الأمازيغية والحياة السياسية في المغرب، يتطلب الأمر تناول جانبين أساسيين من هذه العلاقة الملتبسة، ويمكن اختصارهما في علاقة الدولة والأحزاب السياسية بالأمازيغية على مستوى خياراتها الإيديولوجية وخطاباتها وبرامجها وأدائها التشريعي والتنفيذي، ثم مستوى ثان يهم شكل حضور الأمازيغ في النسيج السياسي وحقل النخب بالمغرب من خلال تحمل المسؤوليات الوزارية والإدارية، والاضطلاع بمهام هامة في تخطيط وتنفيذ السياسات العمومية وتدابير الحياة العامة الوطنية. إذا انطلقنا في تحليل بعدي هذه العلاقة من المستوى الثاني، أي من المؤشرات والمعطيات التي تعكس مستوى وشكل حضور المواطنين والمواطنات المغاربة الأمازيغ في مجال المسؤوليات السياسية والإدارية، فالمعطيات البيبليوغرافية المتوفرة تؤكد أن جل المناصب الحكومية والإدارية الكبرى كانت على امتداد تاريخ المغرب المعاصر حكرا على عائلات محدودة ودوائر سلالية ونخب مخزنية معروفة، وكان من النادر جدا أن يلج أحد الأطر والكفاءات ذوي الأصول أو الانتماء الأمازيغي دوائر النخب السياسية وتولي مناصب كبرى في هذا المستوى. فجل الذين تولوا منصب وزير الخارجية مثلا، منذ الاستقلال ينحدرون من أصول فاسية أو رباطية، نذكر منهم: ادريس المحمدي (1960-61)، وأحمد رضا اكديرة (1963)، وأحمد بلافريج (1958)، وعبد اللطيف الفيلالي (1990)، ومحمد السقا (1986)…كما أن الأسماء التي تولت الوزارة الأولى إلى حدود نهاية الألفية الثانية لم تخرج بدورها عن نفس الدوائر الجغرافية والعائلية والسياسية. أما المنحدرون من أصول أمازيغية فقد كانوا قلة معدودة على امتداد الحكومات التي تعاقبت منذ الإستقلال، ولم يسبق أن تولوا قطاعات هامة كالوزارة الأولى ووزارة الخارجية، مع استثناء واحد بالنسبة لوزارة المالية وهو أحمد سكو لبضعة شهور سنة 1994 . فمواصفات وحضور جل الذين تولوا مسؤوليات سياسية في مستوى التدبير الحكومي لم تتجاوز بعض القطاعات الوزارية التي كانت مجرد مناصب إدارية كثيرا ما تناط بها مهام تنفيذ قرارات ومشاريع واختيارات فوقية، وذلك من طبيعة الحال في انسجام مع الوضع السياسي والإطار الدستوري وآليات الهيمنة والإخضاع التي عرفتها الحياة السياسية بالمغرب. وبجرد أسماء جلهم يتضح ما سبق: لحسن اليوسي الذي تولى وزارة الداخلية سنة 1955 ولم يقض في منصبه سوى شهور معدودة ليتم إبعاده نظرا لخلافاته مع بعض قادات الاتحاد الوطني. المحجوبي أحرضان تولى عدة وزارات مند 1963 منها الدفاع الوطني والفلاحة والبريد والتعاون. حسن الزموري الذي تولى وزارات الشغل والداخلية والفلاحة والتعمير، ومحمد شفيق الذي تولى منصب كاتب الدولة في التعليم الثانوي ثم في الثقافة سنة 1971. صالح المزيلي الذي شغل منصب وزير الأشغال العمومية ثم وزير الفلاحة سنة 1974، ومحمد العنصر الذي تولى عدة مناصب منها منصب وزير البريد سنة 1981 والفلاحة ثم الداخلية حاليا. عبد الرحمن بوفتاس الذي تولى وزارة الإسكان سنة 1992، وعبد الله أزماني الذي شغل منصب ووزير التجارة والصناعة ثم الثقافة سنة 1995، وحسن أبو أيوب الذي عين وزيرا للفلاحة سنة 1995، وعبد السلام أحيزون الذي شغل منصب وزير البريد سنة 1992، ومحمد حصاد الذي شغل بدوره منصب وزير الأشغال العمومية، وسعيد أمسكان الذي عين وزيرا للنقل سنة 1995، ويمكن اضافة أسماء كل من العربي عجول وحسن الماعوني ومحمد أوجار الذين تولوا مناصب وزارية في حكومة عبد الرحمن اليوسفي سنة 1998، وادريس لشكر سنة 2010. وإذا كنا انتقدنا غير ما مرة أداء الحكومة الحالية التي يترأسها حزب العدالة والتنمية الذي استطاع أن يتصدر المشهد السياسي في سياق انتفاضات الشعوب وبعد إقرار دستور 2011، وعبر انتخابات اعتبرت الأكثر نزاهة في تاريخ هذه العملية «العجيبة» في المغرب المعاصر، فلا بد من التأكيد على أهمية وحجم التغيير الذي تحقق في المشهد والمألوف السياسي في المغرب على المستوى الشكلي مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى رأسة الحكومة وتدبير بعض القطاعات الوزارية. فبعض وزراء الحكومة الحالية، ومنهم عز الدين العثماني الذي يتولى حقيبة وزارة الخارجية، يمثلون استثناء في تاريخ إنتاج النخب وإسناد المناصب السياسية في المغرب المعاصر، وأنساب بعضهم لا تحمل الشروط السلالية والاجتماعية والسياسية المهيمنة في المغرب منذ عقود. فحصيلة أكثر من نصف قرن من «التمثيلية الأمازيغية' في الحياة السياسية والحزبية والتدبير الحكومي وتحمل المسؤوليات الكبرى في دواليب الدولة تؤكد وضعية الاقصاء والتوظيف المخزني والتعاطي الاحترازي مع الأمازيغ والأمازيغية، خاصة فيما يتعلق بتحمل المسؤوليات السياسية والإدارية والوصول إلى مراكز القرار أو الاضطلاع بمسؤوليات مؤثرة ومهام هامة. وبمعاينة أشكال حضور الأمازيغ وتمثيليتهم في الحياة السياسية بالمغرب منذ أكثر من نصف قرن من الدولة والممارسة السياسية يطرح السؤال بأية تمثيلية يتعلق الأمر، أو بعبارة أخرى ما هو المعنى الذي اتخذته الأمازيغية على امتداد هذا التاريخ في أدبيات وخطاب وتعاطي الدولة والأحزاب السياسية والحكومات المتعاقبة؟ إن الحديث عن مفهوم الأمازيغية والمكانة التي تحظى بها في الحياة السياسية، وفي تصورات الدولة وفي خطاب وبرامج الأحزاب السياسية في المغرب، وهذا هو المستوى الأخر من تناولنا لهذه العلاقة بين الأمازيغية والحياة السياسية، يتطلب تحديد المعنى المقصود بالامازيغية في هذا السياق، لأن مسالة الحضور أو الغياب، والاستغلال أو الإقصاء تبدأ من شكل التعاطي ومن المفهوم والقصد في حد ذاته. فالفهم السائد والكيفية التي تنظر بها الدولة والفئات الحاكمة والأحزاب السياسية الى الأمازيغية مند خروج الحمايتين الفرنسية والإسبانية لا تتجاوز مستوى التمثيلية الإثنية والقبلية والجغرافية، حيث يتم تأتيت المشهد السياسي وحقل النخب الإدارية بأسماء ذات أصول أمازيغية، ينظر إليهم في حدود تمثيلياتهم القبلية والجغرافية، كما تختزل الأمازيغية إلى «لهجة» تسهل التواصل مع المنتخبين، كأداة للتحدث معهم بلسانهم بغية التأثير فيهم واستمالة تعاطفهم وأصواتهم. هذا الفهم الاستغلالي هو المتداول في التعاطي السياسي مع الأمازيغية، وهو حاضر في فضاء المجتمع وقاموس الأحزاب منذ عدة عقود، حيث يقدم المنتخبون خلال التجمعات الانتخابية والحملات التي تقام في بعض المدن وجل الدواوير والمناطق القروية الأمازيغية على التواصل مع الساكنة بلغتها، فيعدونهم ويبلغونهم مشاريعهم ووعودهم، ويطالبونهم بالإدلاء بأصواتهم لصالحهم….ثم يتركونهم على حالهم إلى موعد انتخابي أخر. أما الفهم الحقوقي والثقافي للانتماء الأمازيغي، من حيث هو حساسية مجتمعية مرتبطة بالوضع الدوني للغة وثقافة وهوية ذات حضور ممتد في التاريخ، وترتبط بالحقوق اللغوية والثقافية والاقتصادية لشرائح اجتماعية عظمى، وبالخطاب الاحتجاجي والتصحيحي وبالمطالب العادلة التي يعبر عنها وعي ثقافي وحركي في فضاء المجتمع، فإن هذا الفهم وشكل التعاطي ليس فقط غائبا في تصور وخطاب الدولة والأحزاب السياسية، بل كان منبوذا وكل من يحمل بوادر أو ارهاصات هذا الانتماء والوعي السياسي يقابل بالتهميش والاحتراز وخطط الاستقطاب أو الإخضاع والتقليم السياسي. ويكفي التذكير أنه منذ بداية أول حزب سياسي بالمغرب إلى حدود السنوات الأخيرة، لم يسبق أن تبنى أي مشروع حزبي وإيديولوجي أو برنامج انتخابي هذه الأطروحات ودافع عنها بشكل واضح، ولم يسبق ان اعتمدت في سن سياسات الدولة والحكومة في تدبير الشأن العام. وقد كان الأنكى من توظيف واستغلال الأمازيغية، كون بعض المنتخبين وبرامج بعض الأحزاب وإيديولوجياتها يمكن أن تكون مناقضة تماما لمصالح وانتظارات المواطنين المتحدثين والمنتمين الى مجال اللغة والثقافة الأمازيغية، فيتم استعمال اللغة الامازيغية في مخاطبة المنتخبين وتحريف وعيهم ومعرفتهم وشحنهم بأفكار وشعارات ورموز وانتظارات بعيدة وغريبة عنهم، حتى صار توظيف الأمازيغية في التداول السياسي والمناسبات الانتخابية مقترنا بتفاهة وديماغوجية بعض الأفكار والشعارات والعبارات التي ألف المنتخبون والسياسيون ترديدها على مسامع المغاربة. خلال الشهور الأخيرة، ومنذ تنصيص دستور 2011 على رسمية اللغة الأمازيغية، وربط تفعيل هذه الوضعية الجديدة بسن قانون تنظيمي، يلاحظ تغيير خطابي في مواقف وردود عدة أحزاب سياسية، وكيفية تعاطيها الجديد مع الأمازيغية. إلا أن السؤال الذي يطرح في هذا السياق هو أن هذا الإقرار اللفظي في خطاب بعض الأحزاب، وباستثناء حزب التجمع الوطني للأحرار الذي تبنى مشروع القانون التنظيمي الذي أعدته الشبكة الأمازيغية من أجل المواطنة وقدمه فريقه البرلماني للجنة التشريع بمجلس النواب، هذا للحقيقة ولكي ننصف المبادارت الجادة، وحزب الأصالة والمعاصرة الذي تقدم أحد نوابه البرلمانيين بسؤال بالأمازيغية لوزير الصحة الذي حاول بدوره أن يدرج الأمازيغية ضمن جوابه، وكذا حزب التقدم والاشتراكية الذي تقدم عبد اللطيف أوعمو رئيس فريقه بمجلس المستشارين بسؤال باللغة الأمازيغية خلال جلسة الأسئلة الشفوية هذا الأسبوع ، فهذا الإقرار لا يزال حبيس التوظيف الإيديولوجي والتعبير عن النوايا السياسية، ولم يرقى إلى مستوى مشاريع واختيارات فعلية ملموسة تترجم هذا التحول والإنصاف على مستوى النقاش السياسي والحياة الاجتماعية والثقافية. فهناك أحزاب تبنت هذا الإقرار الخطابي، وتضمنت مذكراتها خلال الإصلاح الدستوري مطلب ترسيم الأمازيغية، لكنها بقيت مترددة وصامتة في شأن التأخر الكبير والمقترن بنوع من الامبالاة الحكومية بخصوص القانون التنظيمي للأمازيغية بعد مضي سنتين من الانتظار، وخاصة خلال بعض الأحداث التي شكلت اختبارا فعليا لمدى حصول تحول فعلي في التعاطي السياسي مع الأمازيغية ومنها منع استعمال نائبة برلمانية للغة الأمازيغية في جلسات البرلمان، واستمرار منع الأسماء الأمازيغية بعدة مناطق، واحتجاج الساكنات المحلية على حرمانها من الاستفادة من ثروات المجال الطبيعي كالملك الغابوي والمناجم والمياه والأراضي …وغيرها من المؤشرات التي يؤكد تزايدها محاولة الالتفاف على القانون التنظيمي ووضعية الترسيم والإنصاف الحقوقي ومقتضياته الدستورية والقانونية، كما يبدو في الأفق. فهذه الوضعية الملتبسة التي أثارها شكل تعاطي الحكومة الحالية التي يترأسها حزب العدالة والتنمية مع المطلب الأولوي بسن القانون التنظيمي المفعل لرسمية الأمازيغية، وهو الحزب الذي سبق له أن راكم «ذكريات» سيئة مع الأمازيغ، وباستحضار ثوابت مرجعيته الإيديولوجية، نتأكد بأن الأيام القادمة ستحمل مزيدا من المفاجآت والاحتقانات بخصوص الشأن الأمازيغي، مما سيدفع لا شك في اتجاه تطورات جديدة على مستوى نضالات وخطاب الحركة الأمازيغية، ومما سيجدد مشروعية وراهنية سؤال «الأمازيغ والحياة السياسية في المغرب»؟