في غمار رحلة الشقاء الأبدي الذي يحكم مصيره السيزيفي، أمام ما يستنزف راتبه من اقتطاعات: ضريبية، تعاضدية، انخراط في إضرابات مهنية أو استفادة من قروض ذاتية، لا يكاد الموظف ينفلت من الأغلال التي تشده، حتى تعيده جاذبية الغلاء الفاحش، الذي أجهز على قدرته الشرائية إلى قعره السحيق، وبعناد كبير يصر على محاولة التسلق من جديد.. يقاوم الضربات الموجعة، يتهاوى ويعاود البحث عن توازن، دونما العثور على سند يقيه شر الانهيار والاستسلام، أو كوة نور تهديه إلى سبيل الخلاص… ففي الوقت الذي ظل يراهن على المعارك النقابية، علها تأتيه بنتائج مرضية، تنفخ في راتبه الشهري الضامر، وتخلصه من تدهور أحواله المادية والاجتماعية، المتسمة بالقلق حيال تعنت الحكومات المتعاقبة، وغياب الإرادة الصادقة لديها في النهوض بالأوضاع العامة، اندلعت ثورات الربيع العربي لتبعث في النفوس آمالا جديدة، وتعيد التوهج لشعلة التفاؤل المنطفئة. تلمست الأيادي النحيلة قلوب أصحابها الواجفة، ترقب الجميع باشتياق غامر ما ستجود به «فراديس» الحكومة «النصف ملتحية» من ثمار فريدة…غير أن ما خاله المواطنون فرجا مؤكدا، سرعان ما تحول إلى سراب بعد دخولها في العام الثاني من تشكيلها، لقد خسروا الرهان واتضح جليا أن رئيسها السيد «ابن كيران»، الذي لا يتوانى لحظة في إمطارهم بالوعود والشعارات، لم يستطع لا توحيد رؤية الإتلاف الحكومي في تدبير الشأن العام الوطني، ولا تحقيق أي شيء من انتظارات الشعب، انكشف أمره وتبين أنه لا يحسن عدا التغريد خارج «الأسراب»، والخلط بين السياسة والدعوة، مما خلف ومازال ردود أفعال متباينة. تنصل فخامته من التزاماته وتحلل من تعهداته، متذرعا تارة بالتماسيح والعفاريت وأخرى بالمشوشين و«الفلول»، الذين يقفون حجر عثرة دون مباشرة الإصلاح الموعود! فمن غيره أبطل مفعول الحوار الاجتماعي؟ ومن سواه خذل أولئك الذين حملوه إلى رئاسة الحكومة، حين أباح لنفسه ضدا عن إرادتهم الرفع من أسعار المحروقات؟ ألم يلحظ تداعيات ذلك على باقي المواد، وعلى القدرة الشرائية للمواطنين؟ ومن أصدر حكم العفو على الفاسدين والمفسدين في قناة تلفزيونية شهيرة؟ كفى مغالطات والتستر خلف أسوار الادعاءات الباطلة، كفى هروبا إلى الأمام ومحاولة تكميم الأفواه. ألا يستحي من درجات البؤس المتنامي في أوساط المواطنين؟ ألا تحرك مشاعره أصداء الاحتجاجات المتزايدة التي ما تكاد تنتهي إلا لتبدأ؟ ألا تأخذه الرأفة بالأجيال القادمة التي رهنت حكومته مستقبلها، حين حطمت كل الأرقام القياسية في الدين الخارجي؟ من هنا، وفي خضم هذه المحن المتواصلة التي تستنزف ما تبقى لديه من طاقة، واعتبارا لما يتعرض إليه الموظف من ضغط الإعلانات وسحر الإغراءات عبر مختلف وسائل الإعلام، ضاقت في وجهه الأرض بما رحبت، ولم يتبق من خيار لديه سوى الرضوخ لسلطة القهر والإشهار، تاه بين دهاليز مؤسسات قروض الاستهلاك، التي ستظل إلى جانب باقي الاقتطاعات تحاصره حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا…إنه يعلم أكثر من غيره أن الاقتراض في مختلف تجلياته، شكل من الانتحار البطيء الذي يقود إلى التدمير الذاتي والتفكك الأسري، ولن يكون أبدا طريقا سليما للحل، مادام لا يفضي إلا إلى المزيد من التأزم، وتآكل راتبه الذي لا يفي أصلا بأبسط الحاجيات، كما أنه يدرك جيدا أن مؤسسات القروض لا وازع يصدها عن جشعها، ولا تلتفت إلى ما ينجم عن تجارتها، من تعميق أزمات الموظفين البسطاء، لقد كرست جهودها في التربص بهم وتحين الفرص والمناسبات للانقضاض عليهم، وإثقال كواهلهم بالأقساط الشهرية والفوائد الربوية: دخول مدرسي، عطل سنوية، شهر رمضان، عيد الأضحى… فالموظف المقهور ما انفك يناضل بشتى الوسائل أملا في الخروج من دوامته دون جدوى، وحتى في الحالة التي تتم فيها زيادة ما أو ترقية، فإن قيمتيهما لا ترقيان إلى مستوى تحسين وضع أسرته، طالما أن الأسعار في ارتفاع تصاعدي وجنوني، لا تخضع إلا لمنطق قوانين السوق ولهفة الاحتكار، ولا تعرف سبيلا للاستقرار… لقد بات لزاما على الأطباء في ربوع الوطن، أن يتوحدوا ويضيفوا إلى قاموسهم الطبي المغربي، معضلة أخرى لا تقل خطورة عن داء السرطان، وباقي العلل المستعصية على العلاج، وهي إدمان الموظف على القروض… إذ تفاقمت ظاهرة التعاطي إلى القروض بشكل لافت ومحير، رغم آثارها المدمرة. ولا غرو أن نجد أغلب الفئات المتضررة من عواقب هذا الوباء الخطير، تنتمي في معظمها إلى القطاعات التنموية والأكثر حيوية في البلاد…مما يفسر تنامي الاحتجاجات والإضرابات، وما تخلفه من انعكاسات تضر بالحياة العامة. من هنا يتعين على خبراء الاقتصاد، وعلماء الاجتماع، وعلماء النفس… الانكباب على دراسة الأسباب الكامنة وراء هذا الوباء لمعرفة مدى خطورته على المجتمع، ورفع تقارير مفصلة إلى «فضيلة» السيد: «ابن كيران»، رئيس الحكومة الموقرة، عله يسارع إلى استصدار فتوى، تساعد على تبديد الهموم والحد من انتشار الآفة… فقمة الخزي والعار أن يحرم الموظف من حقوقه ويفقد الإحساس بمواطنته وواجباته، عندما يتحول في بيته إلى جسد بلا روح، بلا هيبة وبلا عواطف، وفي مقر عمله بلا شخصية، بلا ملامح، بلا ضمير مهني وبلا طموح…غارقا في التنقيب عن إيجاد حلول لمتواليات الأثمان الصاروخية وفك رموز المعادلات «الجيبية»، فما عاد يشد انتباهه عدا الظفر بقليل من الأمن والاستقرار، بعدما حولوه إلى كائن «اقتراضي» يواجه نوائب الدهر وأعاصير الأسعار الملتهبة، مصاريف الإيجار، نفقات المدرسة والعلاج، تسديد فواتير الماء والكهرباء، التلفون والإنترنت… براتب شهري عبثت بما يفوق نصفه «القرود» غير المروضة. ألا يعتبر عدم الاهتمام بالوضعية المادية للموظف ضمن دواعي التحريض على الفساد والانحراف؟ إن الأحوال الاجتماعية والاقتصادية للموظفين، خاصة أولئك المرتبين في السلالم الدنيا، مازالت تعرف تدهورا فادحا ينذر بالمزيد من التوتر والاحتقان، مما قد يؤدي إلى انفجار الأوضاع ما لم يتم التعجيل بمعالجتها، عبر اعتماد سياسة اقتصادية وطنية، تهدف إلى الارتقاء بدخله وبما يحفزه على أداء مهامه في أحسن الظروف، ويكفل له القدرة على مجابهة تكاليف الحياة، وتوفير العيش الكريم لأفراد أسرته، بدل إطعامه ثرثرة وسقيه ديماغوجية، إشغاله بصناديق لم يساهم يوما من قريب أو بعيد في إفلاسها (صندوق التقاعد، صندوق المقاصة…)، والانشغال عنه بالمهاترات داخل قبة البرلمان، وإطلاق العنان للخيال في الخرجات الإعلامية وأثناء القوافل المناسباتية… فالمعارك الفارغة والمزايدات السياسوية، لن تدخل الدفء إلى جيوبه الباردة، لن تشجع المستثمرين على تحريك عجلة الاقتصاد، ولن تنشر ثقافة السلم الاجتماعي المأمول…