مشكل التعليم بالمغرب هو مشكل الحاضر والمستقبل، لأن التعليم ليس حقا من حقوق المواطن فحسب، بل هو قطاع من القطاعات المنتجة أو لنقل أهمها وأوسعها. كما أن التعليم هو القطاع الذي تتبلور في برامجه طبيعة الاختيارات المبدئية وكذا نوع السياسات المعتمدة. وبناء عليه تتحدد درجة التقدم ودرجة التأخر في البلاد وكذا الآفاق المستقبلية للنمو. لذلك يمكننا القول : إن مشكل التعليم ينطوي على مظاهر المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لا أدل على ذلك من الصراع العام في شقيه الوطني والاجتماعي، الذي كان التعليم مسرحا له سواء في فترة الحماية أو في عهد الاستقلال. فمن خلال التعليم طرحت الحركة الوطنية القضية الوطنية الأولى. أي قضية السيادة. ومن خلال التعليم أيضا تم تطارح كل القضايا السياسية والاجتماعية في المغرب المستقل. وحتى قبل الحماية، عرف المغرب تعليما وطنيا كلاسيكيا كان يقوم بدوره الذي يتلخص في تكوين الأطر التي تحتاجها الميادين الدينية والاجتماعية والإدارية وكذا نشر المعرفة ومحو الأمية. هكذا كان التعليم بالمغرب دوما يتأثر بالأوضاع السائدة ويؤثر فيها انطلاقا من الكتاتيب القرآنية التي كانت منتشرة في القرى والمداشر والجبال والمدن. ناهيك عن المساجد التي كانت عبارة عن أندية ثقافية تنشر مبادئ التضامن والتسامح والانفتاح وحب الوطن، إضافة إلى المراكز العلمية المتمركزة في فاس وسلا ومراكش وصولا إلى المدرسة العصرية التي شيدت مع بداية الاستقلال على أربع دعامات سميت حينئذ بالمبادئ الأربعة: التوحيد والتعريب والتعميم والمغربة. لابد أن نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر رجالا تخرجوا من المدرسة المغربية القديمة وكانوا يجمعون بين العلم والنضال: محمد بن عبد الكريم الخطابي ومحمد بن العربي العلوي. هؤلاء الرجال وأمثالهم كثيرون هم الذين أعطوا للمغرب إشعاعا إفريقيا وعربيا وأقاموا للمغرب روابط فكرية ودينية وسياسية واقتصادية مع كثير من دول المعمور. إضافة إلى كل هذا كانت المؤسسات التعليمية في المغرب مؤسسات شبه دستورية بحيث كانت بيعة العلماء ورجال الفكر تشكل دوما شرطا أساسيا لإضفاء المشروعية على السلطة الحاكمة. لأنها كانت عقدا على شروط والتزامات معينة ومضبوطة. نذكر هنا بالدور الذي قام به رجال التعليم بالمغرب، إبان عقد الحماية حيث رفضوا هذا العقد المشؤوم وأدانوا السلطة المركزية التي أمضته واشترطوا في عقد بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ العمل على مقاومة الاحتلال الأجنبي واسترجاع السيادة الوطنية. ولما تغلغل الاستعمار الإسباني والفرنسي بالمغرب بادر العلماء ورجال الفكر إلى حمل السلاح وتنظيم المقاومة الشعبية ضد المستعمر إلى أن تسلمت الحركة الوطنية المنبثقة من المؤسسات التعليمية أساسا زمام الكفاح الوطني ضد الإدارة الاستعمارية. قاوموها وحاربوا سياستها التعليمية التي بنتها على التنوع المنحط في هياكل التعليم بهدف تكريس الازدواجية في اللغة وفي الثقافة وفي الفكر. حيث أنشأت مدارس خاصة بأبناء الأوربيين ومدارس خاصة بأبناء الأعيان المغاربة ومدارس مهنية لأبناء الفقراء من أسر الفلاحين والمزارعين والحرفيين والتجار الصغار، ومدارس فرنسية أمازيغية مهمتها عزل سكان الأطلس وفصلهم عن بقية المناطق المغربية . لكن رغم كل هذه المحاولات اليائسة للإدارة الاستعمارية في تقويض التعليم في المغرب، لم يلبث رواد المدرسة المغربية بما فيها تلك التي أقامتها فرنسا نفسها أن ثاروا ضد المستعمر مستغلين قطاع التعليم كأداة للكفاح ضد الظاهرة الاستعمارية برمتها. واضعين كأولوية لهذا الكفاح تعميم التعليم وإعطاءه الطابع الوطني كمظهر من مظاهر النضال السياسي من أجل استرجاع السيادة الوطنية. ومع بداية الاستقلال، هب الشعب المغربي قاطبة يطالب بفتح المدارس لجميع الأطفال المغاربة. هذا الضغط الشعبي جعل من السنوات الخمس الأولى من الاستقلال انطلاقة هائلة في ميدان التعليم، حيث كانت أولوية الحكومات الوطنية المتعاقبة هي إيجاد الحلول الناجعة لمشكل التعليم بالمغرب، بدءا بتكريس المبادئ الأربعة السالفة الذكر التي ارتكز عليها التعليم وثم تتبيثها في المخطط الخماسي الأول للمغرب المستقل 1960 – 1964. هذا المخطط الذي كان ثمرة المجهودات الجبارة لحكومة عبد الله ابراهيم رحمه الله. في هذه الحكومة كان مقررا أن يتولى مهام وزير التربية والتعليم الشهيد المهدي بن بركة لولا اعتراض بعض الجهات. عارضوه لأنه كان يحلم بمغرب جديد متحضر و حداثي ينبعث من المدرسة العصرية ومن التعليم العصري. كما جاء المخطط أيضا نتيجة لنضالات القوى الوطنية التقدمية، في مقدمتها المنظمات الطلابية والنقابات التعليمية. هو الذي قرر إصلاح التعليم في إطار منظومة إصلاحية متكاملة ومنسجمة تغطي كل المجالات وتتجه نحو تحقيق مغرب عصري ومتطور اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، معتبرا أي المخطط الخماسي، بأن التعليم حق من حقوق المواطنين والمواطنات صغارا وكبارا في اكتساب المعرفة العلمية والثقافية التي تمكنهم من مواجهة متطلبات العصر وتحدياته، وتجعلهم يتشبعون بثقافة وطنية تقدمية ترتكز على العناصر المشرقة البناءة في حضارتنا العربية الإسلامية. لكن الهجوم الذي وقع على هذا المخطط الخماسي من أجل تفتيته وإقباره، جعل التعليم بالمغرب يعيش مشاكل مزمنة بسبب التراجعات التي أقرتها التصاميم التي جاءت بعده بمشاريع مضادة لا يزال المغاربة يعانون من نتائجها حتى اليوم، والتي أدت إلى احتلال المغرب درجة متأخرة في ترتيب البلدان النامية. كان رجال ونساء التعليم واعين بالنكسة التي تلقتها المدرسة العمومية منذ منتصف الستينيات عندما غاب ربط التعليم بالتنمية كإجراء ضروري لنجاح التنمية ذاتها بقدر ما هو ضروري لتعميم التعليم وتحديثه. كما كانوا واعين ومازالوا أيضا أثناء نضالاتهم من أجل تحسين أوضاعهم المادية والمعنوية بأن معالجة مشكل التعليم بالمغرب تتطلب القيام بإحداث تغييرات جذرية في هياكله وأساليبه ومضمونه. أما الجدل القائم اليوم بين الكم والكيف في التربية والتعليم بالمغرب، هو جدل ناتج عن أزمة النظام التعليمي بالمغرب. نحن منتوج النظام التعليمي السابق نؤمن بأن الدولة بذلت مجهودا جبارا من أجل إصلاح منظومة التربية والتكوين، ورصدت لهذا الإصلاح ميزانيات هائلة مقارنة مع المجالات الأخرى. لكن الخلل الذي تعرفه طريقة إنفاق هذه الأموال هو الذي يقف وراء فشل تحقيق الإصلاح على أرض الواقع. آخر صورة مؤلمة لطريقة الانفاق هي تلك التي صاحبت البرنامج الاستعجالي، حيث فاقت ميزانيته الأربعين مليار درهم ولم يظهر لها أثر على أرض الواقع. كما نؤمن أيضا بأن إصلاح حال المدرسة العمومية من مناهج وبرامج وهياكل وبنيات وتوجهات وعلاقات وقيم لا يمكن أن يتم دون إصلاح المجتمع برمته. هذا الإصلاح الشامل هو الضامن لتوفير إمكانيات وشروط عيش كريم للمجتمع بما يكفل للتلميذ تمدرسا جيدا يساعده على الولوج إلى المعرفة بشكل سلس. هو الضامن أيضا لدمج التعليم بمؤسساته وبرامجه في برامج التنمية. أي دمج المدرسة في الإنتاج. وذلك بدمج مدارس المدن في برامج التصنيع ودمج مدارس البادية في برامج الإصلاح الزراعي الهادف إلى النهوض بأوضاع الفلاحين الفقراء الذين هم في الأصل آأباء وأمهات وأولياء تلاميذ الوسط القروي، وذلك عن طريق إشراكهم في التسيير والتوجيه من أجل إرساء التعليم الوطني المنشود. هذا الإصلاح الشامل هو الذي يؤدي كذلك بشكل مباشر إلى خلق توازن حقيقي بين الحياة المدرسية بالوسط القروي والحياة المدرسية بالوسط الحضري ضمانا لتكافؤ الفرص وتكريس مبدأ الديمقراطية في الولوج إلى المعرفة والاستفادة بشكل جيد ومتكافئ من الإمكانيات التربوية والمدرسية المتوفرة. فتعميم التمدرس مثلا مرتبط بالمجانية، والمجانية تعني في حقيقة الأمر استفادة التلاميذ من الأدوات المدرسية ومن الزي المدرسي ومن التغذية ومن التطبيب ومن النقل المدرسي بالمجان. هذا النوع من العناية بالتلاميذ هو الذي يساعد على تحسين ظروف اشتغال نساء ورجال التعليم داخل الأقسام وتطوير عطاءاتهم خدمة للإجيال والوطن. السؤال الإشكالي هنا هو هل تتوفر الدولة المغربية على إرادة حقيقية لإصلاح التعليم كحقل تتراكب فيه كل المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ إذا كان الجواب إيجابيا فلابد لها من اعتبار نساء ورجال التعليم هم قلب الرحى لكل إصلاح مرتقب لمنظومة التربية والتكوين، وذلك بالاعتماد على تجاربهم الناجحة وخبراتهم الجيدة ووطنيتهم الصادقة. لأنهم في آخر المطاف هم المسؤولون المباشرون عن تنزيل برامج الإصلاح وترجمتها على أرض الواقع.