يتحول «الموقف» الخاص بالمياومين والباحثين عن فرص العمل المؤقتة، الكائن بساحة الأطلس وسط مدينة فاس، مع إشراقة كل يوم، إلى قبلة لعينة من الأشخاص، الذين لا هم لهم بفرص العمل «الشريف»، ولا حاجة لهم إلى انتظار عروض الراغبين في الاستعانة بخبراتهم في أشغال منزلية... سوى أنهم مستعدون لبيع دمائهم والإدلاء بشهادات الزور مقابل تعويضات مالية سخية. يبدو «الموقف» مكتظا بمثل هؤلاء الأشخاص الذين يصعب تمييزهم عن باقي العمال والمياومين الباحثين عن فرص العمل «الحلال»، حيث يندسون وسطهم، ويتظاهرون بحمل أدوات عمل مثلهم، وارتداء سترات زرقاء وبيضاء عليها بقع من الصباغة والأوساخ، بدعوى أنهم في حاجة إلى العمل. تتفاوت أعمار هؤلاء، بينهم شباب في مقتبل العمر، ومنهم من هم شيوخ زحفت بهم السنين إلى خريف العمر، لكن ما يوحدهم هو حرصهم اليومي على عرض هذا النوع من «الخدمات» في الشارع العام على من عجزوا على إيجاد متبرع بالدم لذويهم المرضى، أو على كل راغب في شهادة الزور. يمكن بسهولة التعرف على هؤلاء. سماتهم تنطق بالمكر والجشع، وعيونهم ترصد كل الأشخاص المقبلين على «الموقف». ما إن يتأكدوا من رغبة أحدهم في الخدمة المعلومة، حتى يهرولون باتجاهه دفعة واحدة، ويشرع كل واحد في استمالته وعرض خدمته عليه بسخاء. «إنهم جبناء ويفتقدون للكرامة»، يقول «با علال» أحد قيدومي العمال الذين يترددون على ساحة الأطلس منذ أكثر من ثلاثين سنة. ثم يضيف «أعرفهم واحدا واحدا. إنهم مستعدون لفعل أي شيء مقابل المال»، لذلك يمكن لبعضهم أن يبيع كمية من دمه للمرضى بالمستشفيات العمومية والمصحات الخاصة، خاصة حينما يتعلق الأمر بفصيلة نادرة من الدم... ففي «الموقف» يوجد أشخاص مستعدون للتبرع بهذه المادة، لكن مقابل مبلغ مالي يتم الاتفاق بشأنه مسبقا في غالب الأحيان، حينها يرافق أحدهم قريب المريض المعني إلى مركز تحاقن الدم بمستشفى الغساني، وهناك تُؤدى المهمة. إلى جانب هذه الخدمة، يوجد أيضا ب «الموقف» أشخاص مستعدون لتقديم شهادات الزور في قضايا قضائية وتوثيقية مختلفة، مقابل المال دائما، حيث يضطر بعض عديمي الضمير إلى الاستعانة بمجهولين من أجل إدلائهم بشهادات مزيفة لترجيح كفتهم في قضايا مصيرية بالنسبة إليهم، أو التأثير على القضاء في ملفات جنائية وجنحية، أو لتزكية مصالحهم في عقود البيع والشراء والزواج... لذلك يتم اللجوء دائما إلى «الموقف»، حيث يوجد من هم قادرون على المثول أمام القضاء والضابطة القضائية والعدول والموثقين من أجل الإدلاء بشهادات الزور، رغم أنهم بعيدون كل البعد عنها. ويملك هؤلاء الأشخاص من الجرأة والوقاحة ما يجعلهم مستعدين لأداء القسم والإدلاء بشهادات مزيفة، عن طريق التظاهر بأنهم شهود عيان في واقعة معينة، أو أنهم على اطلاع تام بتفاصيل قضية من القضايا... وبحكم تجاربهم الطويلة في هذه «الحرفة». يتمتع هؤلاء بمهارات وحيل كثيرة تجعلهم يتكيفون بسهولة مع كل مهمة أو قضية معروضة عليهم للإدلاء بشهادات الزور والتدليس بشأنها، لذلك من النادر أن يرتبكوا أثناء أداء مهمتهم على وجه أفضل، أو يترددوا في كلامهم أثناء مثولهم أمام العدالة أو أمام العدول والموثقين. وما شجع أكثر على تنامي هذه الخدمات، ما صار يشهده «الموقف» من إقبال متزايد في الآونة الأخيرة من قبل الراغبين في مثل هذه الخدمات، فضلا عن التعويضات السخية التي يتلقاها ممتهنوها، والتي قد لا تقل عن 100 إلى 200 درهم مقابل كل مهمة. وسبق للسلطات المحلية أن تنبهت إلى هذه الظاهرة، وشنت حملة ضد المشتبه فيهم ب «الموقف»، لكن صعوبة التمييز بين من يرغب في القوت الحلال وبين من يرغب في القوت الحرام، جعل احتواء هذه الظاهرة أمرا صعبا.