السيد العميد عياض بن عاشور رئيس الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة... وصلتني هذا الصباح خلاصة من مداخلتك في”منتدى الثورة” المنشورة في الصباح (التونسية) بتاريخ الأحد 1/05/2011؛ وفيها الفقرة الخاصة بتبرير حرمان “الهيئة العليا”، التي ترأسها،حوالي 200 ألف من قادة وكادر حزب” التجمع الدستوري الديمقراطي”من حق الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي وللتشريعيات والرئاسيات. والتجمع هو امتداد للحزب الحر الدستوري الذي حكم ، منذ الاستقلال إلى 2010؛ لكنك في تبريرك لهذا القرار، الذي انتهك تقليداً عريقاً هو استمرارية الدولة التونسية منذ أكثر من أربعة قرون (ظهور الدولة الحسينية سنة 1707) من دون قطيعة سياسية تُذكر.و فضلاً عن ذلك فهذا القرار الغريب لا مثيل له في دول ما بعد الشيوعية التي شاركت جميع أحزابها، بنخبها الشيوعية السابقة، في الانتخابات فتداولت على الحكم مع خصومها السياسيين حتى الآن؛وفي روسيا،مازالت النخبة الشيوعية السابقة تحكمها دون انقطاع حتى الآن؛بالمثل،في تشيلي بينوشيه، الذي يقارنه ديمقراطيو بلده بهتلر، بسبب حمامات الدم التي ارتكبها في 1973،نافس أنصاره أعداءهم السابقين في جميع الانتخابات الديمقراطية.نفس الشيء تكرر مع أحزاب الأنظمة الديكتاتورية في أمريكا اللاتينية بعد سقوطها وتكرر مع حزب الكتائب الذي ترأسه الجنرال فرانكو ... فهل حزب التجمع ونظامه كانا أكثر دموية وفظاظة وفظاعة من الأنظمة المذكورة؟ أسئلة لم تسمح الرغبة الجامحة في أخذ الثأر لأعضاء “الهيئة” بطرحها على أنفسهم؛ لسبب واضح: في طور الهوس الثوري للانتفاضة يتوارى العقل بعيداً بعيداً تاركاً المجال فسيحاً للغرائز العدوانية والأحقاد البدائية لتقول كلمتها الأخيرة.في السياسة، كما يقول ديغول:”عندما يستمع السياسي إلى قلبه بدل عقله،تحدث كارثة” . وقد حدثت !. اعتبار نظام 7 نوفمبر اغتصاباً للحكم يستحق فاعلوه حرمانهم من حقوقهم السياسية فيه نظر؛ بل تنفيه جميع وقائع التاريخ:الدولة كانت مفلسة،ليس لديها في مرتبة العملات الصعبة للاستيراد إلا ما يكفيها لمدة ستة أيام ؛والحال أن المطلوب هو أربعة أشهر؛ الصراع العقيم على خلافة بورقيبة المريض لم يترك للمتصارعين وقتاً للاهتمام بالمصلحة العامة؛أقصى اليمين الإسلامي كان يتأهب للاستيلاء على السلطة بانقلاب عسكري في 8 نوفمبر 1987 باعتراف صالح كركر المنشور في كتاب”صديقنا بن علي”؛ابتهاج النخب التونسية بالحدث ؛وأخيراً لا آخراً تصويت الحبيب بورقيبة نفسه في أول انتخابات رئاسية لخلفه زين العابدين بن علي قائلاً عند خروجه من صندوق الاقتراع:”صوّتُّ لبن علي ضد الإخوانجيه”. غياب حيثيات قانونية أو مبررات سياسية جدية، لاعتبار 7 نوفمبر انقلاباً على الشرعية، يجعل قرارها غير قانوني وغير شرعي.نعم،كان 7 نوفمبر انقلاباً على القانونية légalité، أي على الشكليات القانونية المرعية،لكنه لم يكن انقلاباً على الشرعية بما هي تطابق مع الإرادة الشعبية العامة سواء عبرت عن نفسها بالانتخابات أو بوسائل أخرى لا تترك مجالاً للشك فيها.والشرعية بما هي تطابق مع القانون المثالي تتعارض مع القانون المعمول به . برّرتَ قرار “الهيئة” كالتالي: “حزب التجمع يجب أن يتحمل مسؤولية افراغ البلاد ثقافياً وسياسياً واقتصاديا واجتماعياً ومسؤولية تفشي الفساد والرشوة، كما أنه هو الحزب الذي خنق التونسيين وكتم أنفاسهم ... ولابد في المجلس التأسيسي الذي سيقوم بالبناء من القطع مع القديم ...ولا يعقل أن تقوم بهذا البناء قيادات تجمعيه ...”. المبررات الثلاثة هي إذن: تفشي الفساد والرشوة، كتم أنفاس التونسيين وضرورة القطع مع القديم لبناء الجديد. المبرران الأولان ينطبقان على9 من 10 على الأقل من حكومات الدول النامية والصاعدة كالصين والهند وحتى بعض الدول الديمقراطية.الرشوة والفساد هما كما يقول فقهاء الإسلام :”مما عمت به البلوى”، أي ذاع وشاع بين الناس خاصتهم وعامتهم وتونس 7 نوفمبر من أقل دول محيطها انغماساً فيهما، حسب: “منظمة الشفافية الدولية”. أما ضرورة القطع مع القديم فهو الاشكالية التي واجهتها جميع الانتفاضات والانقلابات والثورات في العالم، التي أرادت أن تضرب صفحاً عن القديم، لكن مبدأ الواقع خفف غُلواءها، فأعادها إلى الواقع. كيف يمكن بناء الجديد بأدوات قديمة؟ في كل مرة تم بناء الجديد الجديد نسبياً بنخب قديمة مطعمة بنخب جديدة تم بها توسيع قاعدة النظام الجديد الاجتماعية. في كل تغيير سياسي يقع توسيع قاعدة النظام بدمج النخب التي كانت على هامشه أو المهددة بأن تصبح على هامشه فيه خاصة في بلد كتونس لا يشكو من فائض في النخب، لتنال حصتها من السلطة والثروة والخدمات. تاريخياً إذن، لم يعرف تاريخ التغييرات السياسية في العالم عملية اقصاء للنخب القديمة بل عملية دمج تخرج منها حصيلة لا هي بالقديمة كلياً ولا هي بالجديدة كلياً بل مزيج منهما كما تقول الأطروحة الهيجلية . وهذا ما تحقق في تاريخ تونس منذ أكثر من 4 قرون، منذ 1707 (ظهور الدولة الحسينية). في كل مرة كانت تنضاف نخب جديدة للنخب القديمة لمواصلة استمرارية الدولة التونسية، التي لم تعرف”قطيعة”في استمراريتها بل أطواراً متعاقبة من التطور تقريباً دائماً إلى الأحدث والأصلح. لا شك أن عدم إقصاء النخب القديمة هو أحد أهم أسرار الاتجاه الإصلاحي الذي تميزت به تونس في محيطها العربي والإسلامي. فقد ألغت الرق سنة 1846 قبل أن تلغيه فرنسا في مستعمراتها- وأفضل من ذلك ترأس الأمير أحمد باي لجنة لمطالبة الحكومة الأمريكية بإلغاء الرق-؛ وتونس هي أول دولة في أرض الإسلام تصدر دستوراً: “عهد الأمان”سنة 1861؛ وهي أول دولة عربية تصدر قانون أحوال شخصية غير مسبوق سنة 1956؛ وهي أول من ألغى القوامية البطريقية للزوج على الزوجة سنة 1993 بإلغاء رئاسة الزوج للعائلة وجعلها “شراكة بين الزوجين”؛ وهي أول من وحّد التعليم التقليدي والحديث سنة 1957 لصالح الحداثة وأصلح التعليم الديني سنة 1990. تستطيع أغلبية “الهيئة العليا” المهووسة بالرغبة في الانتقام أن تتعامى عنها؛ لكن وقائع التاريخ عنيدة، وسيعيد مؤرخو تونسِ الغد الوقائع إلى نصابها الصحيح. لماذا لم تقع قطيعة في استمرارية الدولة التونسية ونخبها خلال 4 قرون؟ لأن الانتقال من النظام القديم إلى الجديد كان دائماً مُتحكَّماً فيه، بعيداً عن الارتجال والفوضى العمياء السائدة اليوم في جميع القطاعات والمجالات حيث الأمر الوحيد الملزم والجنوني، الذي اشتكى منه الباجي قائد السبسي ، هو dégage (=ارحل) لإحداث فراغ مخيف في إدارة جميع المؤسسات الإدارية والاقتصادية كفيل بدفع بتونس إلى الهاوية. كان المفروض في “الهيئة” أن تكون أكثر اتزاناً فلا تستخدم مع “التجمعيين” (dégage) كما تفعل العناصر الأكثر تطرفاً في المجتمع التونسي ، من أقصى اليسار وخاصة من أقصى اليمين الإسلامي السياسي اللذين يعاديان الدولة مبدئياً، سياسياً عند أقصى اليسار، ودينياً عند أقصى اليمين الذي، كما يقول الغنوشي،يفضل “دولة أقل”، أي فوضى أكثر. حتى في أكثر الثورات راديكالية، كالبلشفية، فإن لينين ما لبث بعد بضعة شهور من الثورة ، 1918، أن أعاد ملاكي المؤسسات الاقتصادية المؤممة كمدراء لإدارتها، بعد أن عاين عجز العمال عن إدارتها؛ بالمثل ، أعاد وزير الدفاع، تروتسكي، دمج ضباط وجنرالات الجيش القيصري في الجيش الأحمر للتصدي للثورة المضادة؛ فالجيش الأحمر كان من العمال الذين لا دراية لهم بفن الحرب؛ حاول أيضاً رئيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هاشمي رفسنجاني، إعادة 400 ألف من نخب وكادر الدولة الشاهنشانية العلمانية الذين فروا إلى الخارج للاستعانة بهم في إدارة الدولة الخمينية الدينية!. “التجمعيون”حملوا مشروعاً اجتماعياً جديداً نوهتُ ببعض انجازاته؛ نعم، ارتكبوا أخطاء وخطايا فادحة، ولكن كما قال بوذا عليه السلام:”اثنان لا يخطئان: من هو في بطن أمه ومن هو في القبر”. “الهيئة” ليست مؤهلة للحكم عليهم، فهي لا تتمتع بالشرعية ولا حتى بالحد الأدني من الموضوعية فضلاً عن القانونية. المحكمة الوحيدة ذات الاختصاص للحكم لهم أو عليهم هي،في الديمقراطية كما لاحظ محقاً أحمد نجيب الشابي، محكمة صناديق الاقتراع التي احتكمت إليها نخب اسبانيا ما بعد الفرانكية، والبرتغال ما بعد السان لازرية، وأوربا الشرقية ما بعد الشيوعية،وجنوب شرق آسيا ما بعد السلطوية، وأمريكا اللاتينية ما بعد الديكتاتورية العسكرية. بعيداً عن المماحكات القانونية البيزنطية، السؤال الوحيد السياسي حقاً، الذي كان على “الهيئة” طرحه على نفسها- لو لم يكن تاريخ تونس في هذه الأيام العصيبة يمشي على رأسه لا على قدميه-هو : هل اقصاء التجمعيين وما يمثلونه ويرمزون إليه عددياً وسياسياً ونفوذاً أمنياً يخدم المصلحة العامة للتونسيين أم لا؟. في عالم مهدد بأن يصبح غير قابل للحكم، وفي تونس اليوم المريضة بالفوضى التي أفقدتها إلى أجل غير مسمى الأمن والاستقرار، السؤال هو: ما العمل للتصدي لهذه الكارثة التي تحمل تهديداً وجودياً للدولة التونسية؟ هل هو إعادة الأمن والاستقرار بكل ثمن أم هو محاكمة التجمعيين للانتقام منهم؟ لو صنعت “الهيئة” قرارها بالحد الأدنى من المعقولية ،التي يُصنع بها القرار الحديث في الدول المتقدمة ، لوجدت الجواب الصحيح: إعادة الأمن والاستقرار خير ألف مرة من محاكمتهم. بمحاكمتهم وإقصائهم تضيق قاعدة النظام الاجتماعي الجديد، وبنفس الضربة تتوسع دائرة العنف فاتحةً الطريق أمام خطر أقصى اليمين الإسلامي الذي يهدد تونس في حداثتها وربما في كيانها كدولة. حرمان التجمعيين من الترشح فأل شؤم للديمقراطية الموعودة التي تخشى منافسة خصوم يريدون الاحتكام لمحكمة الناخبين، فضلاً عن أنه هدية مجانية ل”النهضة” ، المرشحة لحصد حصة الأسد من الأصوات ، ليكون عندئذ المجلس التأسيسي رهينتها فتفصّل الدستور على مقاس :”إعادة الخلافة والتطبيق الكامل للشريعة”(راشد الغنوشي)، ربما مع شيء من الاحتشام يقتضيه المقام! أراهن على أن النهضة لن تتجاوز 13أو 15% من الأصوات لو يُسمح للتجمعيين بمنافستها مع الأحزاب الأقلوية الأخرى.والعجيب، باستثناء النهضة ، فإن باقي أحزاب “الهيئة”يشاطرون التجمعيين مشروعهم المجتمعي ويطالبون بالمحافظة على “مكاسبه” لكنهم يختلفون معهم في أسلوب الحكم السلطوي الذي مارسوه !. نفسانياً، رد الفعل على الإحباط هو العنف؛ مئات آلاف التجمعيين الذين أُقصوا قد ينفّذون “حمام الدم”الذي توعّد به بعضهم خصومهم، أي أن من لا يريدونهم كمشاركين في الانتخابات سيحصلون عليهم كمحاربين. فهل هذا ما تحتاج إليه تونس الجريحة اليوم؟. “الهيئة”، تحت ضغوط حسابات مكوناتها السياسية السياسوية ومزايداتها الديماغوجية، لم تفكر لحظة في أخذ الدرس البليغ من حل حزب البعث العراقي وتطهير مخابراته وجيشه مما أوقع العراق في حمام دم مازال متواصلاً منذ 8 سنوات.المفارقة في تونس،التي لا تنقصها اليوم المفارقات،أن بعض أعضاء “الهيئة” كانوا ومازالوا أنصاراً متحمسين لديكتاتور العراق الدموي المسؤول عن مليوني ضحية.في 1990،صرح راشد الغنوشي للأسبوعية”جون أفريك”:”لقد وجدت صدام حسين مؤمناً صادق الإيمان” ،ومازال إلى اليوم يدافع عنه وعن حزبه ومخابراته وجيشه،وبالمقابل يطالب بحل حزب التجمع ومحاكمة قادته وتطهير (اقرأ:حلّ)المؤسسة الأمنية وربما لسد فراغها ب”الحرس الثوري” ومليشيات أخرى على الطريقة الإيرانية. بدلاً من محاكمة التجمعيين في مناخ فوضوي انطلقت فيه الغرائز العدوانية والرغبة في القتل وشرب الدم وأكل الأكباد من عقال قانون الضمير الأخلاقي ومن ردع القانون الوضعي ،كان القرار العقلاني هو التصالح معهم لضمّهم إلى مكافحة الفوضى التي عمّت تونس والتي توشك أن تحكم بالشلل على آخر مؤسساتها التي مازالت تشتغل ببطء؛وبدلاً من اعتقال مستشاري الرئيس بن علي كان من الأفضل الاستعانة بخبرتهم الطويلة،وبدلاً من محاكمة وزراء الداخلية التجمعيين انتقاماً منهم،كان أجدى تشكيل خلية أمنية منهم تسهر،إلى جانب وزير الداخلية،على إعادة الأمن المفقود وعلى رفع معنويات المؤسسة الأمنية لتسهر هي أيضاً،كما فعلت دائماً،بعين لا تنام على أمن التونسيين. السيد العميد عياض بن عاشور أتمنى أن يكون صوت العقل في الهيئة؛ العقل الذي يأمر لزوماً ، سياسياً وأخلاقياً، بالمصالحة الوطنية الفورية والشاملة؛ صوت العقل يتفق مع تعريف عالم السياسة Pneud للسياسة في كتابة “جوهر السياسة” L'essence de la politique بأنها:”النشاط الاجتماعي الذي يتوخى تأمين الأمن(...)الخارجي والوئام Concorde الداخلي للدولة”.هذا هو رهان المصالحة الوطنية العامة التي تتطلبها حاجة البلاد. السيد العميد كتب عمر بن الخطاب إلى قاضيه، أبي موسى الأشعري، يوصيه:”لا يمنعنك حكم قضيته بالأمس أن تراجع فيه نفسك فإن الحق والرجوع إليه خير من الباطل والتمادي عليه”. وهي وصية ثمينة لا زالت برسم التنفيذ. أكتب هذه الأسطر لا خوفاً ولا طمعاً، فأنا أضع رجلاً في القبر ورجلاً في الحياة حقيقة لا مجازاً، فقد اكتشفت منذ 3 أشهر أني مصاب بسرطان متقدم لن يمهلني طويلاً. كاتب تونسي