« الاقتراب من الموت.. حقيقة إكلينيكية» هو موضوع الندوة العلمية التي نظمت أخيرا بكلية الطب بالدار البيضاء. مجموعة من الاختصاصيين المغاربة والأجانب اختاروا تسليط الضوء على ظاهرة الاقتراب من الموت كحقيقة علمية وسريرية رغم ما يلفها من غموض .. اللقاء كان فرصة لمجمعة من المغاربة لحكي تجربتهم مع الموت ثم العودة إلى الحياة من جديد… رأيت حفرة ضيقة.. كان واضحا أنه قبر.. عرفت أنه قبري أنا.. رأيتني متشحة بالبياض لا يظهر مني سوى وجهي.. فجأة لمحت بابا خشبيا .. انفتح الباب على شيخ طاعن السن. كان وجهه يشع نورا. كلمني. وكلمته. علمت أني في العالم الآخر... هذه القصة كما عاشتها لطيفة حدثت قبل ثلاثين عاما. كانت لطيفة حينها شابة. خضعت لعملية خلع ضرس. وعلى إثرها أصيبت بنزيف حاد. تم حقنها بمادة معينة لكن جسمها لم يتحملها. تباطئ عمل القلب إلى أن توقف ودخلت الشابة في غيبوبة. « أخبروا أبي أن يستعد للأسوأ.. كنت قد رحلت فعلا».. لكن الصدمات الكهربائية كانت فعالة. «عدت إلى وعي. عدت إلى الحياة». تحكي لطيفة بإحساس عميق. « لا أستطيع وصف التجربة.. إحساسي لا يمكن أن تستوعبه الكلمات.. لقد مت وعدت إلى الحياة مرة أخرى» تقول لطيفة وهي تقدم شهادتها خلال ندوة علمية تحت عنوان « الاقتراب من الموت.. حقيقة إكلينيكية» نظمت أخيرا بكلية الطب بالدار البيضاء. 30 مليون تجربة اقتراب من الموت لطيفة ليست حالة معزولة.. فعبر العالم يوجد أزيد من 30 مليون شخص سبق وعاشوا تجربة الاقتراب من الموت. ملايين الأشخاص مروا من نفس المسار تقريبا.. الدخول في نفق .. رؤية نور .. الالتقاء بموتى.. محادثتهم.. تلقي رسالة.. الخروج من الجسد.. ثم العودة من جديد إلى العالم الدنيوي. تجربة تعاش خلال فترة غيبوبة أو عقب التعرض لحادث أو عند توقف القلب لفترة قبل عودة النبض. إلى حدود زمن قريب لم تكن مثل هذه الحالات تحظى باهتمام العلماء والأطباء. كانت تجارب يعيشها الكثيرون لكن بعيدا عن أعين الاختصاصيين ورصدهم. وبعد صدور الكتاب الشهير للدكتور رايموند مودي سنة 1975 تحت عنوان «الحياة بعد الحياة»، تم أخذ هذه الظاهرة على محمل الجد من طرف فئة واسعة تنتمي إلى المجالين العلمي والطبي. « بحكم عملي استمعت للكثير من التجارب حول الموت والاقتراب منه..» يشرح الدكتور جين بيير بوستيل، الاختصاصي في التخدير والإنعاش بمستشفى سارلا بفرنسا. كان مرضى الدكتور بوستيل يستعيدون وعيهم ليخبروه عن تفاصيل دقيقة، لكنها متشابهة لحد كبير، تتمحور خصوصا حول خروجهم من الجسد وتجولهم بيعدا ومقابلتهم للموتى ودخولهم أنفاقا ورؤية نور ساطع وغيرها من المشاهد الغريبة. وهو ما دفعه رفقة بعض الزملاء لوضع بروتوكولات كلينيكية استكشافية حول تجارب الاقتراب من الموت داخل القسم الذي يشتغل به. «هذه التجارب تطرح الكثير من الأسئلة حول الموت والحياة والوعي» يواصل الدكتور بوستيل. وأهميتها تكمن خصوصا في « مواصلة الاهتمام بالوعي وما يوجد بعد الموت .. إنه باب جديد للبحث في مسألة الوعي.. والوجود» يواصل الاختصاصي. طابو ...واتهام بالجنون مقابل الأعداد الكبيرة للأشخاص الذين قدموا شهاداتهم حول تجربة الاقتراب من الموت، ومقابل الاهتمام الذي يوليه عدد من العلماء والدارسين لهذه الحالات في الغرب لا يحظى الموضوع باهتمام كبير في المغرب. « قليلون فقط قبلوا بتقديم شهادتهم في هذا اللقاء»، توضح ماريا بيشرا خبيرة التنمية البشرية وأحد منظمي اللقاء العلمي. « مازال الموضوع يشكل طابو .. يصعب على الناس التحدث في الموضوع وسرد تجاربهم.. » تقول بيشرا التي عاشت بدورها تجربة الاقتراب من الموت. « أول مرة، بعد عشرين سنة، أتحدث أمام الملأ عن تلك التجربة»، تقول المرأة. «وجدي للموت ديالك» كانت ماريا حينها في غرفة العمليات لوضع مولودها الأول. فجأة سمعت الطبيب يعلن موتها. كان موتا سريريا. «شاهدت الأطباء والممرضين يركضون في كل اتجاه.. أحسست أني أخرج من جسدي.. رأيت نورا ساطعا يتراءى من بعيد.. قابلت أشخاصا.. وسمعت رسالة واضحة. « وجدي للموت ديالك». كانت هذه العبارة التي سمعتها ماريا بوضوح قبل أن تستيقظ وتستعيد وعيها وتعود للحياة من جديد. روعة التجربة أمر لا تنكره ماريا لكنها في نفس الآن لا تخفي الرهبة التي أصابتها من فحوى الرسالة. بمجرد استعادتها للوعي أخبرت ماريا والدتها بما رأته وطلبت منها إن تستعد لوفاتها. لكن جواب الأم كان جاهزا. « آش كتخربقي هادك غير البنج..» هكذا فسرت الأم كل ما عاشته وخبرته ماريا في تجربة الاقتراب من الموت. نفس الجواب وجدته ماريا لدى شقيقها الذي اعتبر ما رأته مجرد هلوسات. ومنذ ذلك الحين امتنعت ماريا عن ذكر الموضوع. « كنت أخاف من اتهامي بالهلوسة والتخريف.. لكن الآن أعرف أنها تجربة إنسانية عاشها الكثيرون غيري.. تجربة ليست متاحة أمام الجميع». تغيرت حياتي جميع من عاشوا تجربة الاقتراب من الموت يخرجون منها وقد تغيرت نظرتهم للموت والحياة. « أصبحت هادئة كثيرا ربما لدرجة البرود.. » تقول لطيفة. « لا أعرف الحقد .. مهما بلغت درجة الإساءة أعرف أن الجمال في التسامح» تواصل المرأة الأربعينية والكلمات تنساب من شفتيها بروية وعيونها تشع وهي تحاول وصف ما يختلج داخلها« صعيب نوصف ليك ...الاحساس لي عندي غريب.. لحمي كيتبورش عليا فاش كنتفكر». حتى نظرتها للموت تغيرت وذلك الخوف الطبيعي من نهاية الحياة يحل محله الآن استسلام جميل للقدر المحتوم. تغير نظرة الشخص للحياة تتقاسمه أيضا ماريا التي عادت إلى دنياها برسالة « وجدي للموت ديالك» ومنذ أن استيقظت من تلك « الموتة» وهي تعتبر نفسها في تحدي يومي استعدادا للموت. « ما عرفتش إمتى ولكن أنا دائما مستعدة...». تجاوب ماريا مع الرسالة لا يعني اعتكافها ولا اعتزالها الحياة... بل بالعكس «أعيش حياتي كل ساعة وكل دقيقة .. وأبحث عن السعادة لي ولأسرتي..» تقول ماريا « تعززت علاقتي بالله أقرأ القرآن كل يوم.. وبحب كبير.. » تحكي المرأة بوجه لا تغيب عنه الابتسامة. « جميع الأشخاص الذين أتابعهم ممن عاشوا التجربة تتغير نظرتهم للحياة وتعاطيهم مع الدين .. يخرجون من التجربة بأحاسيس إنسانية قوية وإحساس بالذات والروح.. » يشرح الدكتور إيريك ديدوا الاختصاصي النفساني بالمستشفى الجامعي لاتيمون في مارسيليا الفرنسية. رجاء بنعمور كانت أيضا ضمن المتطوعات اللواتي قدمن شهادتهن حول تجربة الاقتراب من الموت. وقد شهدت بدورها لحظات غريبة ومليئة بالإثارة. فقد عادت من التجربة وهي تحمل تفاصيل دقيقة عما كان الأطباء والممرضون يقولونه ويفعلونه وكل ما حدث داخل جسدها على مستوى الخلايا والأعضاء منذ تخديرها وإلى حين استفاقتها. عانت رجاء كثيرا بعد خروجها من تلك التجربة. « كنت عاجزة عن التكيف مع كل ما يحيط بي.. الحاضر والمستقبل والماضي ... كان عندي خلط .. لم أكن أستطيع القيام بعملي والاهتمام ببيتي .. عانيت نفسيا وجسديا أيضا». أهمية المتابعة النفسية كيفما كانت تفاصيل التجربة فإن العودة للحياة بعد « الموت» لن يكون أمرا بسيطا. « يكون الشخص معزولا عن الواقع ومصدوما ورغم الراحلة النفسية التي قد يجدها البعض إلا أن المتابعة النفسية ضرورية في كل الحالات» توضح دينا لحلو الاختصاصية النفسانية. وحسب لحلو يشعر من عاش التجربة بتشويش كبير لدرجة أن الكثيرين لا يجرؤون على التصريح بما عاشوه. وكثيرا ما تتأثر نظرتهم إلى الحياة وتتغير فكرتهم عن الموت. وقد تؤدي التجربة بصاحبها للانخراط في اكتئاب طويل المدى خصوصا في غياب الدعم النفسي. مؤطرات نظريات علمية لتفسير الظاهرة يعتقد علماء النفس أن أعراض الاقتراب من الموت تشكل آلية دفاع للنفس في مواجهتها للموت. وبالتالي تظهر مجموعة من الأعراض التي قد تختلف باختلاف الثقافة والنظرة إلى الموت. وهناك نظرية أخرى تتحدث عن أن حركات عصبية في الدماغ تتغير بسب مواد كيماوية تفرز قبل وقت قصير من الموت. بينما تشير بعض الأبحاث والنظريات إلى أهمية الذاكرة في هذه الحالة حيث تتعرض للضرر ورد فعل عن ناتج عن الأزمة أو نقصا في الأوكسيجين تقوم بطرح بعض الأفكار المخزنة فيها.. كرد فعل دفاعي عند الشعور بتهديد وخطر الموت.. متى تحدث تجربة الاقتراب من الموت تحدث الكثير من هذه التجارب خلال حالات معينة السكتة القلبية (الموت السريري) والسكتة الدماغية بسبب فقدان كبير الدم، أو الصدمة الحاصلة في الدماغ بسبب إصابة أو نزيف دماغي، أو عندالغرق والاختناق … هدى الأندلسي