فرنسا-المغرب.. كيف يتداخل البعد السياسي بالثقافي والاقتصادي ضمن نسيج من المصالح والامتيازات المشتركة؟    حقوق الإنسان: الأمين العام للأمم المتحدة يبرز تميز تعاون المغرب وتفاعله مع الآليات الأممية    الجيش الملكي يستنكر تحكيم مباراة الرجاء ويدعو لتحقيق فوري    الصيد في المحميات بين أبرز المخالفات المضبوطة خلال موسم القنص حتى 20 أكتوبر    أخنوش يؤكد زيادة حصة الجماعات من مداخيل الضريبة على القيمة المضافة    البرلمان يؤجل مناقشة قانون الإضراب        "لوبوان": هل أساءت المحكمة الأوروبية استخدام القانون بإبطال اتفاق الصيد بين الاتحاد الأوروبي والمغرب؟    "أوكسفام": المغرب يحرز تحسنا في "مؤشر الالتزام بتقليل عدم المساواة" بفضل زيادة الإنفاق العمومي في أعقاب زلزال الحوز    المؤسسات والمقاولات العمومية: رسوم شبه ضريبية متوقعة تناهز 6 مليار درهم برسم 2024    الأول بإفريقيا والشرق الأوسط.. تدشين مركز ابتكار ل"نوكيا" بالمغرب    إسرائيل تشن غارات على مدينة صور بجنوب لبنان ووزيرة خارجية ألمانيا تصل بيروت    إيران: إعدام أربعة أشخاص بسبب بيع مشروبات كحولية مغشوشة    جنود إسرائيليون يطلبون إنهاء الحرب    السيد غوتيريش يشيد باحترام المغرب لوقف إطلاق النار وبالتعاون النموذجي للقوات المسلحة الملكية مع المينورسو    أبطال أوروبا.. حكيمي ينقذ "PSG" من الهزيمة وفينيسيوس يقود الريال لريمونتادا تاريخية    لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ الإسباني تدعو إلى الضغط على المغرب لإعادة فتح الجمارك في مليلية    "ّلجنة حماية الصحفيين": فرحة بوعشرين والريسوني والراضي لم تدم طويلا ويواجهون عبء الإدانات بعد إطلاق سراحهم    الدورة الثامنة لتحدي القراءة العربي تتوج ممثلي ‬فلسطين والسعودية وسوريا    منظمة الصحة العالمية تعلن تعليق حملة التطعيم ضد شلل الأطفال في غزة    ارتفاع أسعار الذهب إلى مستويات قياسية بسبب التوترات العالمية    كيوسك الأربعاء | المغرب يرصد أزيد من 200 مليار سنتيم لتطوير الجانب الرياضي    طنجة.. تفاصيل اعتقال شخص بتهمة النصب وانتحال صفة مسؤول أمني وتزوير وثائق رسمية    19 يوما من إبادة شمال غزة.. إسرائيل تواصل القتل والحصار والتطهير    آلاف الفنانين والكتاب يبدون في عريضة قلقهم من الذكاء الاصطناعي    توقعات طقس اليوم الأربعاء بالمغرب    اَلْحُبُّ الْمَمْنُوعُ!    حكّام الجزائر، يتامى "الاستفتاء"... يغمغمون    المغرب الثقافي .. حب واحتراق    تحديات عالمية ورهانات مستقبلية    وفاة وحالات تسمم ببكتيريا في أحد منتجات "ماكدونالدز"    تغييب الأمازيغية عن تسمية شوارع العروي تجلب انتقادات للمجلس الجماعي    توقيف 3 أشخاص متورطين في قضية إلحاق خسائر مادية بممتلكات خاصة وحيازة السلاح الأبيض    كمال كمال ينقل قصصا إنسانية بين الحدود المغربية والجزائرية في "وحده الحب"    قمة الجولة السابعة بين الجيش والرجاء تنتهي بالتعادل        تعادل الرجاء والجيش بالدوري الاحترافي    رئيس الفيفا يشكر المغرب على استضافة النسخ الخمس المقبلة من كأس العالم للسيدات لأقل من 17 عاما    خلال 3 سنوات ونصف رفعت مديونية الخزينة من 885 إلى 1053 مليار دهم    توقعات احوال الطقس : انخفاض درجة الحرارة بمنطقة الريف    لمجرد يروج لأغنيته الجديدة "صفقة"        منتخب الشاطئية ينهزم أمام مصر (2-3)    المستوطنون يقتحمون الأقصى في رابع أيام "ما يسمى عيد العرش"    النصر للشعب الفلسطيني وكل المدعمين له ..    تقسيم دي‮‬ ميستورا‮ ‬وزوبعة‮ ‬صحراوية‮    رحيمي الأعلى تنقيطا في قمة الهلال والعين        شبهات حول برنامج "صباحيات 2M" وإدارة القناة مطالبة بفتح تحقيق    إعادة تأهيل مرضى القلب: استعادة السيطرة على الصحة بعد حادث قلبي    المكسرات صديقة المصابين بداء السكري من النوع الثاني    الأولمبياد الإفريقية في الرياضيات.. الذكاء المنطقي الرياضي/ تتويج المغرب بالذهبية/ تكوين عباقرة (ج2) (فيديو)    وهي جنازة رجل ...    رحيل الفنان حميد بنوح    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    الملك محمد السادس: المغرب ينتقل من رد الفعل إلى أخذ المبادرة والتحلي بالحزم والاستباقية في ملف الصحراء    أربعاء أيت أحمد : جمعية بناء ورعاية مسجد أسدرم تدعو إلى المساهمة في إعادة بناء مسجد دوار أسدرم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



‎التراجيديا العربية في مرآة القناص والفريسة الحلبية
نشر في الأحداث المغربية يوم 12 - 11 - 2012


‎بقلم: حمودان عبدالواحد
يستحيل على المتتبّع لأخبار سوريا والمنشغل بما يجري فيها أن لا يستقطب اهتمامَه حدثٌ ذو دلالة تراجيدية مؤلمة وواعدة، ولها أبعاد وثيقة الصلة بخيار التضحية كثمن يراهن به المنتفضُ الواقف، الرافض للإذعان والاندثار أمام إرادة المراقبة المتعطشة للموت. وقع هذا الحدث في 20 أكتوبر 2012 بمدينة حلب، وبالضبط في حي «بستان الباشا» شاهده بأم عينيه ويحكيه مصوّر الحروب الصحافي Javier Manzano الذي يعمل في وكالة الأنباء الفرنسية، في مدوّنة Bigbrowser التابعة لجريدة «لوموند».
‎ ويوجد رجل في دوّامة الرحى الطاحنة لهذا الحدث التراجيدي. الرجل طريح على الرصيف وهو ينزف من جراء إصابته برصاصة قناص والسيارات تمر به ولا أحد يجرؤ على الاقتراب منه خوفا من القناص . وبعد قضائه مدة على هذه الحالة، كان منظرُه من بعيد يوحي بأنه ميت. غير أنّ رجله بدت، فجأة، وكأنها تتحرك قليلا ما، ثم رفع رأسه .. كان الرجل في الحقيقة ما زال حيّاً، وكان يعرف أن القناص وضعه في عين عدسة بندقيته الفتاكة ويراقبه على الدوام، فإن تحرك على الرصيف رماه مرة أخرى بالرصاص من أجل القضاء عليه، وإن لم يتحرك يحكم على نفسه بالموت بسبب نزيف الدم المستمر من جسمه … الرجل في دوّامة من أمره، وقضيته تتلخص في كونه يرى نفسَه يقترب من الموت في بطءِ وتيرةٍ مبرمَجة، فهل يستسلم للواقع المفروض عليه ؟ أم ماذا يفعل وكيف ؟
‎وعلى الرغم من جروحه وضعف جسمه وعدم قدرته المفترَضة عن القيام بأية حركة، صدرت منه شبهُ معجزة إذ وقف بغتة على رجليه، وتردّد وهو حائر من أمره، ثمّ – بعد أن نظر اتجاه المتمرّدين - قرّر في تحدّ بطولي حقيقي ونادر، أن يلحق بالحائط الذي يحتمون به، ملبيا نداء الحياة وآملا أن ينجو بنفسه من ممر القناص، من عالم الأموات .. وانطلق يجري في سباق سريع مذهل ضد الموت والقناص والرصيف .. وبينما كان على وشك الوصول إلى نقطة النجاة حيث لم يكن يفرقه عنها سوى متر واحد، سُمِع صوت ثلاث رصاصات أصابته في بطنه وأوقفته عن الجري .. وقف الرجل متجمّداً في مكانه، مزق قميصه من على صدره وكأنه يبحث عن التخفيف من حدة الألم الذي ألهبته به الرصاصات المجرمة، نظر في صمت ترتعش له الأوصال إلى الذين كانوا قد اقتربوا منه، في حيطة شديدة، يشجعونه ويأملون وصوله إليهم. ووجّه أيضا آخرَ نظرة منه، نظرة مليئة بالتساؤلات والألغاز المحيرة إلى عدسة كاميرا مصور الحروب، كزافيي مونزانو الذي يحكي هذه المأساة .
‎ما يسترعي الانتباه هنا هو اعتراف مونزانو المرّ بأن المتمردين، وهو كذلك، كانوا جميعا عاجزين عن فعل شيء لإنقاذه، وهم تحت رقابة القناص المصوّب فوهة سلاحه من فوق إحدى البنايات نحو كل من يمر من أمامه قاطعا الطريق على رجليه أو مارّاً في سيارة .
‎لكن، ألا تنطبق هذه الشهادة علينا، نحن كعرب، وأيضا على كلّ من يتحسر من غير العرب لِما يراه يوميا وكأنه مسلسل تلفزيوني، ويسمعه حول إراقة الدماء في سوريا وتحويل حياة أهلها إلى جحيم، ويتحسر أكثر فأكثر لمّا يتأكد، بالرغم من رغبته الصادقة فعل شيء ما، من أنه عاجز عن إيقاف رحى الحرب التي تأتي على الأخضر واليابس ؟
‎كان من بين ما ختم به مونزانو سردَه للحدث أنْ قال في وصفه لنظرة الرجل الهارب من القناص الأخيرة : «إنها نظرة خيبة أمل، نظرة رجل منهزم، رجل لا يستطيع أن يذهب أبعد من المكان الذي سقط فيه». قال مونزانو هذا، لأنه كان هو الآخر في حالة انهزام وخيبة أمل ! ونحن نقرأ بهذه الطريقة موقف الصحافي الفرنسي، لأننا كعرب ربّما نُسقط عليه ما يشبه الإحباط النفسي الذي حلّ بنا أمام جسامة مأساة السوريّين، ونكاد نسلّم بالهزيمة، ونترك الانهزامية تتحكم في تصوراتنا وتصرفاتنا وقراراتنا، وتسدّ آفاق الأمل والمستقبل في الوطن العربي.
‎سباقُ إنسان ضد القناص والموت ينتهي بسقوطه لمشهدٌ رهيب. ويكاد كلّ من يحضره، وفي قلبه مثقال ذرة من إنسانية وله وعي مدرك بما تمثله الحياة كأعلى قيمة يسعى إليها الإنسان، أن يسقط مغشيا عليه من هول الواقعة وثقل التداخل التراجيدي الغامض لمعانيها التي تبدو للوهلة الأولى عبثية : معنى البطولة الحقة ممثلة ببساطة وروعة في رجل يريد أن يبقى حيّاً، ومعنى الشعور بالعجز – على الرغم من هذه البطولة والآمال المرافقة لها – أمام إرادة القتل والموت، ومعنى الرقابة الخائفة حتى من المصابين بالجروح والآلام، الرقابة الجريئة – في جبنها المخفي – على تتبّعها كلّ حركة حياة ومطاردتها قصد خنقها في شكل لعب لا يصدر إلا عن مرضى النفوس والعقول ..
‎في الواقع، هذه المعاني المتشابكة فيما بينها، إنما هي معاني الصراع من أجل البقاء تارة، والسيطرة على الآخر ومسار الحياة على وجه الأرض تارة أخرى. وهي في صراعها تمثل القوى التي تجذبها أو الطاقات التي تنجذب إليها. إن الأمر يتعلق بإرادتيْن متناقضتي الهدف ومركز الجاذبية، تريد الواحدة الاتجاهَ أو الانتماء إلى عالم تسوده – أخلاقيا وإنسانيا – القيم العُلوية الفيرتيكالية، وتريد الأخرى النزول بالأشياء والأحياء إلى عالم تتحكم فيه الظواهر السُّفلية. وكلما أرادت قوى التحرر الوقوف على قدميها لمناطحة العلو ومداعبة الأجواء العلائية والتحليق في أرجاء المستويات العُلوية، إلا وحاولت قوى المناطق السفلى والأقبية المظلمة منعها من تحقيق هذه الغاية السامية والجرّ بها نحو هاوية الجحيم.
‎صحيح أنّ القناص هو، من زاوية المحيط المكاني، في «فوق» لكنه بإرادته الملحة على سلب حياة إنسان دون رحمة أو اعتبار لحالته كمجروح وبلا سلاح وغير قادر للدفاع عن نفسه لهو بالتأكيد في «تحت». والرجل المرمي على الرصيف، الخاضع لرقابة هذا القناص – القابع المختبىء في مكان من «فوق» – هو بمقاييس نفس المحيط المكاني في «تحت»، لكنه بإرادته في الوقوف والتحدي والصمود وسعيه نحو نقطة الاختفاء أخذا بأسباب النجاة وتعلقا منه بالحياة لهو، ما من شك في هذا، في «فوق» بالمطلق.
‎وكل من هو في حالة القناص ويشغل رمزيا منصبَه (التستر والاختباء كوجه من وجوه الجبن في نقطة فضائية مسيطِرة لزرع الرعب وإراقة الدماء وسلب الأرواح ) تأخذ فوقيتُه السلطوية حتما – من فرط ممارستها العمياء للوحشية والشراسة – البُعدَ الأخلاقي والإنساني اللائق بها، بُعد التحتية الأسفلية … أي واقع ما يمكن نعته على غرار اللغة القرآنية ب « أسفل سافلين».
‎لا ريب أنّ الرصيف التراجيدي الذي ظل المواطن السوري المجروح مرميا عليه في شراك القناص المانع عليه كلّ حركة تكون إيذانا بهلاكه، هو، رمزيا وواقعيا، نفس الفضاء الهامشي والمهمّش الذي طالما عانت منه، ومازالت، الشعوب العربية تحت وطأة السلطات السياسية المنغلقة وظلم الحُكّام المتغطرسين الذين أرادوا من « رعاياهم» أن يقبلوا كل إذلال يلحق بهم ويسكتوا عن الأخطاء والتجاوزات والاعتداءات والإهانات التي يتعرّضون لها. ولا يحقّ لهم أن ينتقدوا سياسة حاكم أو تصرّفات وأفكار أحد من أسرته كما لو كانوا يعيشون دون « نظر» وبلا «فم»، وممنوع عليهم أن يتركوا أجسامهم تتحرك وعقولهم تتنفس.
‎لقد أريدَ منهم، كما يتهكّم بذلك الشاعر العربي، «أن يناموا ولا يستيقظوا» لأنّ الحاكمَ العربي بإرادته «استعمار» العقول والنفوس والأحلام والعواطف وكلّ الفضاءات الخاصة والعامة لحياة المواطنين، يعرف بواسطة سياسته الأبوية الرحيمة أين تكمن مصلحة العباد أي «ما فاز إلا النّوَم»! لكن، إذا كانت إرادة القناص تفرض على المصابين المجروحين أن يبقوا طريحي الأرض ملتصقين بثراها وغبارها، على أمل أن تفرغ من داخلهم كمية الدم الضرورية بيولوجيا للحياة، فإنّ إرادة الرجل المحتوم عليه أن يظل «يحتضر»، في رفضه لموته المبرمَج له، في اختياره الوقوف، هي إرادة الحياة، أي إرادة التحدي والمقاومة والصمود في وجه القتلة وسفاكي الدماء، حتى وإن كلفه ذلك التضحية بحياته.
‎وشتان بين موتٍ راقدٍ نستسلم له قسراَ ونحن مطروحين مهمّشين على الرصيف خوفا من القناص أن يعيد ضربتَه العمياء فيلحقنا بالفناء، وبين موت واقف – فيه حياة حقيقية لنا – نختاره كنوع من التحدّي لإرادة كلّ القناصين، وما أكثرهم في دنيا العرب، وجبروت «فوقيتهم السلطوية »! فهل ستنام بعد هذا أعين الجبناء ؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.