ما الذي يجمع بين السي حسين أوباما الأمريكي وبين هنية الفلسطيني. ما يجمع بينهما أنهما الاثنان رئيسان منتخبان ديمقراطيا من طرف الشعب. الأول جاء إلى البيت الأبيض بعد أن استطاع إقناع الناخبين الأمريكيين بمشروعه السياسي، والثاني جاء إلى مقر السلطة الفلسطينية بعد أن أقنع الشعب الفلسطيني بمشروعه السياسي والنضالي. لكن بما أن أوباما أمريكي فقد قبل العالم وهلل ورحب بدخوله البيت الأبيض. وبما أن هنية فلسطيني ويوجد على رأس منظمة للمقاومة لا تقبل الاعتراف بإسرائيل، فإن حكومات أوربا والبيت الأبيض أجمعوا على تصنيفها في خانة المنظمات الإرهابية. ولذلك تمت إقالة هنية وحكومته، ضدا على إرادة الشعب الفلسطيني الذي منحها ثقته وأصواته. ويوما واحدا بعد مرور صور الرئيس الأمريكي المنتخب حسين بارك أوباما في كل قنوات العالم وهو يتناول رفقة ابنتيه «ماليلا» و«ساشا» المثلجات في مركز تجاري بهاواي، رأى العالم في القنوات نفسها صورا لعشرات الأمهات وهن يتراكضن في كل الاتجاهات حاملات جثث أطفالهن بعد سقوط قنابل تزن كل واحدة منها طنا من المتفجرات في الشارع العام بغزة. قبل أن أتابع نشرة أخبار الظهيرة التي نقلت صور «الهولوكست» الفلسطيني، كنت قد أنهيت للتو قراءة حوار نشرته «الشرق الأوسط» يوم السبت مع «شيمون بيريز» الرئيس الإسرائيلي اختارت له الجريدة العنوان التالي «المنطقة نضجت للتوجه نحو السلام». فقلت في نفسي أن العنوان الأنسب للحوار كان سيكون هو «المنطقة نضجت» والسلام. خصوصا بعد أن رأينا كيف نضجت أجساد الرجال والأطفال والنساء الفلسطينيين تحت نيران عملية «الرصاص المتدفق» التي أطلقها الجيش الإسرائيلي. ورأى العالم بأسره صورة رجل الإسعاف الفلسطيني وهو يجمع في إناء قدما وكفا ممزقتين باحثا عن صاحبهما وسط الأشلاء. ورأى العالم الإسلامي لقطات حية (نقول حية تجاوزا) لضحايا القصف وهم يحتضرون ويتلون الشهادة على الهواء مباشرة قبل أن تزهق أرواحهم. وعوض أن يتخذ «العالم الحر» الذي ترفع لواءه الولاياتالمتحدةالأمريكية، موقفا حازما من هذه البربرية والوحشية والدموية التي يتفرج عليها العالم بالبث الحي، جاء رد فعل البيت الأبيض شبيها بصفعة قوية لكل العرب والمسلمين. فكل ما يطالب به البيت الأبيض هو أن يحاول الطيارون الإسرائيليون تجنب إصابة المدنيين بقذائفهم وصواريخهم خلال القصف. واضح أن جورج بوش يرد للأمة العربية والإسلامية، على ظهر الفلسطينيين، تحية الحذاء بأحسن منها. فقد قرر أن يكون خروجه من البيت الأبيض وتسليمه للسلطة في العشرين من الشهر القادم، خروجا «مظفرا»، وأن يختم ولايته بهذه المجزرة الرهيبة التي باركها هو وعازفته المفضلة على البيانو، كونداليزا رايس. ومنذ أن رأيت فردتي الحذاء تتطايران نحو وجه بوش في تلك الندوة الصحافية ببغداد، ورأيت حجم الشماتة التي أبداها المسلمون والعرب عبر أرجاء العالم بهذه التحية الحذائية، وأنا أقول بأن هناك من العرب والمسلمين من سيدفع الثمن غاليا، وفي القريب العاجل. وهاهي مجزرة غزة التي لم يحدث مثلها منذ ستين سنة من الاحتلال، تأتي لكي تنسي المسلمين والعرب انتصارهم الصغير في تلك الندوة الصحافية، وتعيدهم إلى رشدهم لكي يفهموا أن ساكن البيت الأبيض ليس لديه اعتراض على قصف رجال أمن حماس وكوادرها ومقاوميها وقتلهم وتشتيت أشلائهم في الطرقات، وإنما فقط يطلب من قناصي الجيش الإسرائيلي أن يكونوا دقيقين وهم يضغطون على أزرار قاذفات صواريخهم، حتى لا يصيبوا الأطفال الخارجين من المدارس وأمهاتهم اللواتي يقفن بانتظارهم. ولو كانت نصائح الرئيس الأمريكي باجتناب ضرب المدنيين تفيد لكانت أفادت قواته العسكرية في أفغانستان والعراق، والتي تخلط الأعراس والمآتم بجحافل الطالبان، فتقصف كل شيء يتحرك. فبالنسبة إلى الجيش الأمريكي الأفغاني أو العراقي الجيد هو الأفغاني أو العراقي الميت. وهكذا بدأنا نسمع خلال بداية الغزو الأول للعراق وأفغانستان مصطلحا حربيا جديدا اسمه «نيران صديقة»، لتبرير القصف العشوائي الذي لا يميز بين المدنيين والمقاتلين. وبالنظر إلى سوابق الجيش الأمريكي في القصف العشوائي، ومثال ملجأ العامرية في بغداد الذي برر الجيش الأمريكي قصفه بخلطه بمصنع للأسلحة، لازال ماثلا في الذاكرة. فكيف ينصح الرئيس الأمريكي جيش الاحتلال الإسرائيلي بتجنب قصف المدنيين وهو نفسه يرتكب هذه الجريمة بدم بارد في كل مكان يرسل إليه جنوده. عندما يسمع المرء رئيس أقوى دولة في العالم وهو يبارك القتل ويحاول تغليفه بطابع إنساني، ويسمع نيكولا ساركوزي رئيس البلد الذي صدر الثورة الفرنسية إلى العالم وأرسى مفاهيم العدل والمساواة والإخاء، يطالب أولا بوقف إطلاق صواريخ المقاومة وثانيا بوقف صواريخ الجيش الإسرائيلي، ونسمع وزيرا مصريا يبرر الاعتداء بكون الحكومة المصرية قد أنذرت حماس قبل القصف، وأنها ستفتح معبر رفح لمرور الجرحى نحو الإسعاف، وكأن الفلسطيني لا يجوز له العبور نحو مصر إلا مقتولا أو مجروحا أو مضروبا، عندما نرى ونسمع كل ذلك نقتنع بأن الفلسطيني أصبح اليوم وحيدا أمام قدره أكثر من أي وقت مضى. وقد لخص هذه الصورة بشكل دقيق المحلل السياسي البرغوثي لقناة الجزيرة عندما قال بأن الفلسطينيين يجب أن يعولوا على مقاومتهم، وأن لا ينتظروا من العرب والمسلمين شيئا. وقالها الرئيس الليبي معمر القذافي أيضا عندما جمع لجانه الشعبية لكي يقول لهم بأن العرب سواء اجتمعوا الخميس المقبل أو العام المقبل فإنهم لن يغيروا شيئا من واقع الأمر في فلسطين. لقد أصبح اليوم واضحا أن الفلسطينيين في غزة تعرضوا لمؤامرة شارك فيها الأصدقاء قبل الأعداء. ولذلك فمن الظلم إلصاق دماء الفلسطينيين الذين سقطوا في مجزرة السبت الأسود فقط بأيادي الجيش الإسرائيلي، لأن أيادي الأشقاء العرب أيضا ملطخة بهذه الدماء المغدورة. إنه لمن العار أن تغلق مصر، أم الدنيا كما يقولون، معبرها في وجه الفلسطينيين وهم أحياء ولا تفتحه سوى أمام نعوشهم ونقالات جرحاهم. وإنه لمن المخجل أن تقرر جامعة الدول العربية عقد قمتها الطارئة بعد خمسة أيام من المحرقة الفلسطينية حيث سقط أكثر من 300 شهيد في يوم واحد. وإنه لمن المخجل للعالم المسيحي بأسره، (مادمنا فقدنا الأمل في العالم الإسلامي) والذي يحتفل بأعياد الميلاد بأشجار الصنوبر والشموع ويوزع على أطفاله الحلوى والهدايا، أن يسمح للجيش الإسرائيلي أن يريق دماء الأطفال الفلسطينيين فوق الأرض التي تقدسها الديانات الثلاث، أرض الأنبياء ومهد المسيح عليه السلام. لقد أظهرت إسرائيل للعالم بأسره أنها لا تقيم وزنا لا لمشاعر مليار مسلم ولا لمشاعر مئات الملايين من المسيحيين، ولا حتى لمشاعر اليهود الذين يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني في الحياة والوجود على أرضه. وأن ما قاله رئيس حكومتها شمعون بيريز لجريدة «الشرق الأوسط» يوم المحرقة، من كونه «يحمل رسالة سلام» وأنه «جاء ليعلن الحرب على الحرب» ليس سوى محاولة لطمأنة الفلسطينيين والعرب والمسلمين حتى ينخدعوا مثلما انخدعوا في كل حروبهم التي خسروها مع إسرائيل بسبب «نيتهم» وغبائهم الزائد عن اللزوم. عندما نتأمل الصور البشعة التي تتناقلها تلفزيونات العالم للأشلاء المتناثرة لإخواننا الفلسطينيين ونرى حجم عزلتهم ووحدتهم أمام البربرية الإسرائيلية، نتذكر قصيدة «مديح الظل العالي» للراحل درويش، ونفهم أخيرا لماذا أوصى الفلسطينيين بالاعتماد على أنفسهم للبقاء. تأملوا جيدا ماذا قال درويش قبل سنوات : سقط القناع لا إخوة لك يا أخي لا أصدقاء يا صديق لا قلاع لا الماء عندك لا الدواء، ولا السماء، ولا الدماء ولا الشراء، ولا الأمام، ولا الوراء حاصر حصارك.. لا مفر سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوك.. لا مفر وسقطت قربك فالتقطني واضرب عدوك بي فأنت الآن حر قتلاك أو جرحاك فيك ذخيرة فاضرب بها اضرب عدوك.. لا مفر...