هن فتيات تمكن من إثبات أنفسهن في مجال عملهن، قبل أن تدفعن الرغبة في التحرر من قيود العائلة والمجتمع إلى اتخاذ قرار العيش بمفردهن، والاستقلال بحياتهن بعيدا عن الأسر التي ينتمين إليها، قرار سيجرعليهن مشاكل كثيرة، ويجعلهن في موضع شك وريبة داخل مجتمع ما زال العديد من أفراده يربط استقامة الفتاة بإقامتها في بيت أسرتها. تجاوزت عتبة الثلاثين من العمر، كما أصبحت تشغل منصبا مهما بإحدى الشركات، وتتقاضى راتبا كبيرا يضمن لها استقلاليتها، لكن بالرغم من ذلك ظلت فاطمة الزهراء تشعر بأنها تعامل من طرف والديها على أنها طفلة قاصر، من خلال رفضهما فكرة أن تعيش بمفردها، والمراقبة الصارمة التي كانا يفرضانها عليها، في الوقت الذي يتمتع فيه أشقاؤها الفتيان بهامش كبير من الحرية، بحيث كان يسمح لهم بالخروج والدخول في أي وقت يشاؤون. قاطعها أفراد أسرتها ظروف عمل فاطمة الزهراء، كانت تضطرها إلى التأخر خارج المنزل، والعودة في ساعات متأخرة من الليل، الأمر الذي كان يؤدي دوما إلى نشوب شجارات ومشاحنات بينها وبين والديها، إضافة إلى أشقائها الفتيان الذين يحرص كل منهم على استعراض قوته، واستغلال السلطة المستمدة من وضعه كرجل، فيوجهون لها الشتائم، ويكيلون لها الصفعات. عجزت فاطمة الزهراء عن تحمل الأسلوب الذي كانت تعامل به من طرف والديها وأشقائها، فحزمت حقائبها وغادرت بيت الأسرة في اتجاه الشقة التي تمتلكها، بعد إدراكها بأن الأمور قد وصلت بينها وبين أفراد أسرتها إلى طريق مسدود. تجاهلت فاطمة الزهراء تهديدات والديها بمقاطعتهما لها إلى الأبد في حال غادرت المنزل وانتقلت للعيش بمفردها، فهي لم تأخذ تلك التهديدات على محمل الجد، معتقدة أنها صدرت عنهما في لحظة غضب، وبأن الأيام ستكون كفيلة بجعلهما يتعودان على فكرة عيشها بمفردها، ويتأقلمان مع ذلك الوضع. مرت أيام طويلة على انتقالها إلى مقر سكنها الجديد، لكن الشابة لم تتلق مكالمة واحدة من أفراد أسرتها، لتقرر أخذ زمام المبادرة بهدف الاطمئنان على أحوالهم، في محاولة لإعادة المياه إلى مجاريها في علاقتها بوالديها وأشقائها. غير أن جميع محاولاتها كانت تقابل بالتجاهل، فحتى والدتها التي لطالها أغدقت عليها الحنان والمحبة، أصبحت تتحدث إليها بنبرة باردة، بينما يمتنع باقي أفراد الأسرة عن الحديث إليها، أو زيارتها من أجل الاطمئنان على أحوالها. عدم تفهم والديها وأشقائها لرغبتها، جعل مشاعر اليأس والإحباط تستبد بفاطمة الزهراء، لكنها بالرغم من ذلك رفضت العودة إلى بيت الأسرة، وظلت متشبثة باستقلاليتها التي جعلتها تتفوق في عملها، وتخوض كل حروب الحياة في سبيل تحقيق أحلامها. أصبحت موضع شك يختلف الوضع كثيرا بالنسبة لكريمة، التي تعمل كمهندسة بإحدى الشركات، فبالرغم من كونها نشأت في كنف أسرة محافظة، لا يتقبل أي من أفرادها فكرة أن تترك الفتاة منزل أسرتها من أجل العيش بمفردها في سكن مستقل، لم يؤد تنفيذ قرار استقلاليتها بالعيش بمفردها إلى انقطاع حبل الود والتواصل بينها وبين أسرتها، لكنه سيجعل المشاكل تقرع بابها، وتنغص عليها حياتها. في سبيل إرضاء والديها، تكبدت الشابة الثلاثينية خلال سنوات عناء التنقل بشكل يومي إلى مقر عملها الذي يبعد بمسافة طويلة عن منزل أسرتها، قبل أن تقرر وضع حد لتلك المعاناة، وتنتقل إلى الشقة التي تمتلكها، متحدية بذلك القرار رغبة والديها وأشقائها الذين اعتبروا الأمر تمردا على العادات والتقاليد التي نشؤوا وتربوا عليها. كان والداها يتشبثان بفكرة بقائها للعيش معهما بنفس المنزل، في انتظار أن يتقدم أحد الشبان لطلب يدها، حرصا منهما على سمعتها، وخوفا عليها من ألسنة السوء التي قد تحاول النيل من شرفها، لكن كريمة في الوقت ذاته لن تجد معارضة شديدة من طرفهما كما كانت تتصور، غير أنها ستصطدم وهي تشق طريقها نحو الاستقلالية التامة بواقع مر، يتمثل في النظرة السلبية التي يرمق بها أفراد المجتمع الشابة العازبة التي تعيش بمفردها. إقامة كريمة بأحد أرقى أحياء مدينة الدارالبيضاء لن تضمن لها الاستقرار و»التيقار» الذي تنشده، فلقد كانت تلمس في عيون الرجال المقيمين بنفس العمارة، سواء المتزوجون منهم أو العزاب، نظرات الرغبة الممزوجة بالاحتقار، لأنهم يرون فيها صيدا سهلا، بينما توجه لها الجارات أسئلة من قبيل» كيفاش حتى خلاوك والديك تعيشي وحدك؟» وغيرها من الأسئلة المبطنة، التي تحمل في طياتها جملة من الاتهامات والإساءات تضعها في خانة الفتاة «السايبة»، ما جعل الحزن يعرف الطريق إلى نفسها. زاد في تعميق معاناة كريمة، الزيارات المفاجئة التي كان يقوم بها والدها لمنزلها، وإصراره على الاتصال بها في ساعات متأخرة من الليل، متحججا برغبته في الاطمئنان عليها، لكن كريمة كانت تدرك جيدا أن الشك هو الذي كان يدفعه إلى ذلك، وتلتمس له العذر لتلك التصرفات، بعد أن أصبحت تشعر بأن استقلاليتها جعلت منها موضع شك من طرف كل المحيطين بها.