لم تكن الحركات الاحتجاجية مجرد مطالب تشغيل وضمان لقمة عيش وتعويض عن سنوات غبن مادي ومعنوي طالبت به فئات معتقلين عسكريين وسياسيين، وكذا تحسيس بوضعية ضياع فئوي يهمش معاقين أو مكفوفين من فرص الاستفادة والمساهمة في كوكبة التنمية المجتمعية… كانت الحركات الاحتجاجية تنم كذلك عن وعي جديد بضرورة التغيير البنيوي على كافة المستويات، وبالخصوص على مستوى إصلاح منظومة عمل السلط وضرورة الفصل بينها وتطهيرها من لوبيات وأشكال الاستغلال بالريع والرشوة والفساد … نخص بالذكر هنا في هذا المقال السلطة القضائية والحاجة إلى إصلاح هذا الحقل.. وكذلك الحركات الاحتجاجية التي خرجت هيأة القضاة للمطالبة بها.. ويسجل لها إيجابيا وتاريخيا هذا الوعي وهذه النهضة للضمير وهذه الوقفة التي ربما تعرقل تحقيقها متاريس وأبراج أرثوذوكسية جمة. في إصلاح القضاء ميزة ربيع الشعوب والتي أصبحت دولية الآن أممية، متجاوبة بين ضمائر شعوب عدة، ليس من الضروري أن تكون منتمية إلى دول الجنوب، بل أصبحت الحركات تهم دول الشمال كذلك، أي الدول الغنية اقتصاديا والتي تمتلك نفوذا رأسماليا عالميا نسبيا، هذه الميزة أنها خلقت وعيا عمَّ طبقات متعددة وفئات متنوعة من المجتمع…ذلك أن الرغبة في تغيير أوضاع لم تعد مقبولة ولا عادية عند المعنيين بكل قطاع وكل سياسة أصبحت همَّا مشتركا داخل المجتمعات… هكذا نجد داخل مجتمعنا المغربي، قطاعات لم يكن بالحسبان أنها ستنتفض وتطلب إصلاح وضع وتحقيق توازن علاقات وقوانين … فمن فئة المقدمين الذين يكونون تحت إمرة القائد والباشا والعامل عيون الداخلية على شرايين الحياة المجتمعية ككل إلى فئة القضاة، والتي لم يكن من المتوقع أن تخرج للاحتجاج على أوضاع والمطالبة بشيء ما… ما ساد في الثقافة المجتمعية المغربية، أن فئة القضاة هم أصحاب امتياز وسيادة ونفوذ.. ذلك أنهم يمتلكون سلطة عليا، يجعلها أصحاب القانون من بين السلط التي تتحكم في دواليب الحياة إلى جانب السلطة التنفيذية والتشريعية .. ذلك أن النظام الحاكم جعلها لعقود، إن لم نقل لقرون ما دام امتداد واقعنا يتجذر في مرحلة القرون الوسطى، حيث لم تستطع الحداثة أن تجدد كل شيء في حياة المجتمع وعلاقاته وثقافته. .. من أولويات السلط بين يديه. كان القضاء ومازال مرآة السياسة القائمة، نقاؤه من نقائها، ونزاهته من نزاهتها .. ما دام القضاء متحكم فيه من طرف رجل السياسة، فلم يكن يُتَوقع أن يصدر حكم قضائي يخالف قرار الحاكم ومصالحه.. لذلك وجدنا الحكام يختارون القضاة ويجعلونهم تحت إمرتهم المباشرة وسلطتهم المراقبة، بين الجزرة والعصا، مع فتح باب النفوذ الهرمي لمن أراد التسلق الطبقي والغنى المادي والسيادة المجتمعية… وكم من مثال عبر التاريخ يبين سلطة السياسي على القضائي. قد يرفض فقيه مهمة القضاء خوفا وتقوى وورعا، فيكون مصيره التعذيب والاعتقال أو النفي… قد يرفض تكريس ظلم في حكم قضية أو نازلة، فيعاقب بأشد عقاب أو يجرد من ممتلكاته أو ينفى إلى مكان مهجور… والأمثلة عبر التاريخ كثيرة في هذا المقام… فهذا الامام أبو حنيفة النعمان(80ه/150ه) الذي رفض مهمة القضاء مرتين، في العهد الأموي ثم العهد العباسي، وكيف تعامل معه عقل الاستبداد التاريخي السياسي العربي الإسلامي القروسطي بالغضب والاعتقال والتعذيب … ذلك أن الحاكم يريد للجميع أن يكون في خدمته، سواء بالحلال أو الحرام، بالظلم أو بالعدل، بالقانون أو بالتعسف والشطط في استعماله … المهم هو خدمة السياسة التي لا تعرف إلا المصالح التي تخدم كرسي الحكم وميزاته وميزات الطبقات المحيطة به . عاشت فئة القضاة هذه التناقضات بين إرضاء الحكام والقيام بالواجب المهني وإرضاء الضمير القانوني المرتبط بالعدالة وإرساء الحق ومحاربة الظلم وأصحابه… ولعل هذا المستوى من التحليل سكن نفسية الشخصية المغربية كذلك في تصورها وممارستها لمهمة القضاء … لعل هذا المستوى من التحليل جعل من يريد التوافق مع السلطة السياسية والتنفيذية، يهادن ويتماشى معها ويتلون مع مصالحها، وقد يكون ذلك على حساب نزاهة القضاء…. فهل استطاع القضاء المغربي النجاة من وباء الفساد السياسي والرشوة والتزوير للقضايا؟ سؤال نتركه لواقع الحال، يحكم عليه الخبير ،كما يحكم عليه المواطن الذي جرب نزاهة القضاء…. إنما موضوعنا الراهن هو هذه الانتفاضة لفئة القضاة ورغبتها في تمثيلية مطالبية ومهنية…ما هو الحد الفاصل بين الحق في ذلك والمصالح التي قد يلحقها ضرر من جراء تحقيقه ؟ فكما نعلم أن لكل شيء جدلية مصالح في الواقع، تتجاذبه تناقضات في التحقيق … لذلك فممارسة السياسة تلزم التهيؤ للقبول والرفض، للترحاب والصد… إن سؤال المواطن حول هذه الحركات المطلبية يتوجه إلى مدى قدرتها على تحقيق استقلالية عن سلطة النفوذ السياسي والاقتصادي والعسكري .. تحقيق عمل ديمقراطي يفصل بين السلطات ويحافظ على التوازن المطلوب حتى لا يستحوذ ويستبد جانب على آخر … وحينئذ سنقع من جديد في الاستبداد الذي كرس قرونا من التخلف الحضاري، وفي السكوت على الظلم الذي كرس استغلالا ممنهجا لمصالح المجتمع من طرف فئات معينة، أو في التواطؤ الذي خلق لوبيات متحكمة في أرزاق وأعناق الناس، مستعبدة لهم ومهينة لكرامتهم… بين الديمقراطية والاستبداد، تأتي نزاهة القضاء واستقلاليته، وتربية طاقمه على العفة والنزاهة والحياد العادل، والمواطنة الفاعلة في تطوير المجتمع ليكون دولة الحق والقانون والعدالة.. الايجابي في ربيع الشعوب هو هذه القدرة على التعبير وتفجير ما أصبح جرما ليكون حقا مشروعا في المطالبة…من حق كل الافراد والفئات أن تطالب إذا بما تتحقق به كرامة عيشها وأدائها لمهامها بنزاهة وشرف، خدمة للمجتمع والنظام العام داخله… وهكذا تكون دولة الحق والقانون… فهل الأفق يبشر بالخير لهذه الحركات المجتمعية، أم إنها ستكون تسلقا لامتيازات مهنية وفئوية وبالطبع سكوتا على الواقع وعلى ما يجري فيه؟هو سؤال المواطنة من طرف كل مواطن.