في خضمّ الحديث المُتواتر في أيّامنا هذه عن كلّ هذه "الثّورات" و"الثّورات المُضادّة"، في ظلّ الميل "الجامح" للبعضِ -لسببٍ ولغير سبب- إلى التّمرّد على الواقع القائم حدّ الوسواس، والميلٍ "المنبطح" لآخَرين إلى الاستسلام واليأس والتّسليم باستحالة أيّ تغيير، لسببٍ ولغيرِ سبب أيضاً.. قلّما ننتبهُ إلى نوع آخرَ من الثّورات، بمعناها الإيجابيّ، والّتي تؤتي نتائجَ مُذهلة لصالح عموم النّاس، دون حاجة إلى "قطع" الحركةِ في شارع أو طريق، ولا إلى "تعطيل" خدماتِ إدارة معيَّنة في وجه عموم المواطنين، ولا إلى إلحاقِ مزيدٍ من الأضرار بمؤسّساتِنا ومرافقنا، وبالتّالي باقتصادنا، العليل أصلا، حدّ الشّفقة.. بدأت "قصّة" الثّورة التي سنخصّص لها هذا الرّكن (كما تناقلت تفاصيلَها المواقعُ الإلكترونية) مع جزّار يلقب ب"وْلد خْماجة" من مدينة أزمور، والذي علّق لافتة في واجهة محله كتب عليها "كيلو لحمْ غيرْ ب50 درهمْ"! وهو سعر أقلّ ب20 درهماً كاملة عن أسعار باقي الجزّارين، إذ إنّ سعر اللّحم في هذه المدينة -كما في غيرها من مدن المملكة إلا في ما ندر- هو في حدود 70 درهما.. لم ينظر جزّارو أزمور إلى لافتة "وْلد خْماجة" ب"عين الرّضا"، ولا حظيتْ لديهم خطوتُه -الغريبة بالنسبة إليهم- بما يكفي من "القبول"، فقصدوا قائد المنطقة، الذي حرّك على الفور فريقا طبيا خاصا للتأكد من سلامة اللحم الذي يبيعه هذا "الثّائرُ" على "طريفة" جزّاري المدينة، وللوقوف على مدى خضوع اللحم الذي يبيعه للمعايير المطلوبة، من قبيل وجود "طامبّو" وزارة الصّحة عليها.. ولسوء حظّ الجزّارين (لْمجبّدينْ، بتعبير الرّاحل الحسين السّلاوي في أغنيته "التّاريخية" حْضي راسْك) تأكّدَ أنّ كل شيء قانوني.. حين سأل القائدُ هذا القصّابَ "الاستثنائيّ" عن سرّ تخفيضه ثمنَ اللحم، أجابه دون تردّد: "اللحمْ تيطيحْ عْليّ ب35 درهمْ، إلى رْبحتْ فيهْ 15 درهمْ باراكا عليّ، ونتّعاونْ مع وْلاد الشّعبْ"!.. فما كان من القائد إلا أن أخبر باقي الجزّارين أنّ "وْلد خْماجة" ينضبط في تجارته للقانون، وأنه لا يستطيع اتّخاذ أي إجراء في حقه، والحالة هذه.. وحسب المصادر السّابقة دائماً، فإنه، بعد هذه "الواقعة" بأيام، خفّض كل الجزّارين ثمن "البْكري" إلى 50 درهما بالتتابع، والآن صار بإمكان كل مواطني أزمّور والمدن المحيطة اقتناء اللحم ب50 درهماً.. من سوء حظّ بعض الأشخاص -أو ربّما هو مكرُ الصّدَف- أنّ ثنائية الدّال والمدلول لا تجتمع بالضّرورة في أسمائهم، وإلا ما كان "ولدْ خْماجة" وراء هذه الثّورة الحقيقية في أوساط الجزّارين.. وهو ما ذهبت إليه تعليقات البعض على هذا الخبر الطّريف في مواقع التواصل، إذ قال أحدهم "الله يْرزقنا شي حكومة مْكوّنة غيرْ من أولادْ خْماجات"، وقال آخر "هادا وْلد الشّريفة ماشي ولدْ خماجة"، فيما أكد ثالث صحّة الخبر ونزاهة هذا الجزّار وهو يعلق "أنا من أزمّور وكلام الأخ صحيح 100% وولد خماجة (إبراهيم) مشهور بنزاهته".. إذا كان جزّارو هذه المدينة سيحقدون على زميلهم هذا، الفريدِ في قناعته وسلوكه المواطِن، فلأنّه "فضح" جشعهم ونهبَهُم جيوبَ المواطنين طيلة كلّ هذه السنوات وبأبشع بطريقةٍ يمكن تصورُها. فإذا كانت تكلفة الكيلوغرام الواحد من اللحم لا تتجاوز 35 درهماً، حسب "ولدْ الشّريفة"، فلا شكّ أنّ مَن يستحقّون لقب "خْماجة" هم هؤلاء الذين ظلوا يحقّقون نسبة 100 في المائة وأكثر من الأرباح على حساب المغربي البسيط، المغلوب على أمره في ظلّ مثل هذا النّهب والسّلب من كلّ الجهات والأطراف.. أمّا "ولدْ الشّريفة" فيكفيه فخراً أنه قاد ثورته الهادئة وسط هؤلاء "لمْجبّدين". ويكفيه فخراً قراءة مثل هذه التّعليقات: "نريد أولادْ خماجة في جميع مدن المملكة".. "تحية كبيرة للجزّار وْلد الناسْ الذي فضح الخْماجات".. "الله يسلط ولدْ خماجة في كل مواد الاستهلاك".. "خاصّ أولادْ أزمور يْنتخبو ولد خماجة يكونْ برلماني المنطقة".. و"كُلّنا إلى أزمّور"!