بادئ ذي بدء أعترف أنني لا امثل المغاربة ولا البشر ولا لست ناطقا باسمهم، كل ما هنالك في الأمر أن بعض الأفكار تختلج في ذهني وأحببت أن أعرضها على نظر القراء الكرام(هنا المذكر ينوب عن المؤنث)، أولا، لأرتاح من همومها، وثانيا، أقدمها كمشاركة من باب أضعف الأيمان للمساهمة في إثراء المناقشة حول القضايا التي تهم المجتمع الذي أعتز بانتمائي إليه ولا يمنعني هذا الاعتزاز من اهتمامي أيضا بالشأن الإنساني على هذه البسيطة ومن فوقها ومن تحتها. فمن رأى من القراء أنني أبالغ في استعمال صيغة الجمع فليعذرني ويعتبر أن الامر لا يهمه وادعوه أن لا يستمر في القراءة وإن فعل فإنني على الاقل قد أنذرته وقد أعذر من أنذر كما يقال. يبدو لي بكل تواضع أن المغاربة بشكل عام، شأنهم شأن كل المجتمعات الإنسانية ينتظرون التغيرات في جميع مجالات حياتهم المعاشية منها والتنظيمية علي الصعيدين السياسي والاقتصادي وما ذلك إلا تماشيا مع سنة الحياة المبنية أساسا على مبدأ التغيير والحركة الدائمة المستمرة وإذا توقف التغيير توقفت الحياة. إن التغيير المنتظر والمنشود في هذا الاطار ليس واضحا كل الوضوح بمعنى أنه في طور التكوين والتخطيط والأخذ والعطاء والنضج وثمرته تكون على المدى البعيد لأن هذا التغيير المنتظر يتعلق في أساسه بتكوين وتهيئ العقليات والإنسان. يلاحظ المرء أن الورش المختلفة تنفتح في مختلف الجهات وفي مختلف مجالات الأنشطة في مغربنا الغالي والغني وفي جميع البلدان لأن مصير الجميع مصير واحد، وذلك انطلاقا من مبدإ استراتيجة التنمية والتطور للقضاء على الفقر والجهل ليسود السلام والتعاون والتعقل والاحترام والاطمئنان بين الشعوب. ومغربنا ليس خارجا عن هذا الاهتمام بكونه من الدول النامية التي فتحت أيضا ورشا للتغيير المنشود من قبل مواطنيه ومواطناته بقيادة زعمائه وزعيماته في إطار القوانين والأعراف الجاري بها العمل في البلاد(هي أيضا خاضعة للتغيير). ويبدو لي أن المغاربة ذكورا وإناثا واعون بحقيقة متطلبات التنمية والتغيير والتحديات المصاحبة فهم على ما يبدو مجندون، مثلهم في ذلك مثل كل شعوب الارض بما فيهم شعوب الجزيرة العربية والشعب الامريكي والمنغولي، لمحاربة كل أنواع التخلف والعمل كل حسب طاقته من أجل العمل في التغيير لتحسين أوضاع البلاد في جميع الأصعدة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والحكامية والحقوقية وحتى الدينية، بالرغم من تحجر بعض العقليات التي لا تود التحرك نحو أي شيء إلى الامام وتحلم بماض يكتنفه عدد من التساؤلات ويحتاج إلى تمحيص ودراسة عميقة لاكتشاف مغزاه وتفهمه قصد وضعه في إطاره المعقول كتراث بشري جسد تاريخ من سبقونا، لكن عهد "الساموراي" قد ولى وعهد "الامويين" قد ذهب وذهبت معهم عهود كثيرين. وهذا العهد الذي نحن فيه هو عهدنا، هكذا يقول الواقع وهكذا تقتضي الضرورة عند كل المجتمعات. وليس عيبا الاعتراف بتحديات التنمية والتغيير المنشود، فهذه حقيقة لا تقلل من شأننا ومن شأن الآخرين غيرنا فهي تعنينا جميعا ويعمل كل منا من أجل مواجهتها في جو من احترام بعضنا البعض والتكاتف والتعاضد والمشاركة كل حسب طاقاته، وما ذلك إلا من أجل الخروج من هذا النفق المظلم وولوج ميدان التغيير والتنمية المستدامة والتمدن للالتحاق بنادي المجتمعات الإنسانية المتقدمة في جميع المجالات مع تميز كل مجتمع لأن الاختلافات من أسرار الحياة وتقتضيها طبيعة الأحوال المعاشية وتجربة كل مجتمع. الهدف ليس التقليد الأعمى للآخرين ولا التخلي عن أكل الكسكسو والطاجين والسردين واركان واحترام بعضنا البعض. لا ينكر أحد منا قيمة هذا التحول الذي نريده وننشده جميعا مثلنا مثل غيرنا من أيها الناس، لكن أيضا هذا التغيير المنشود نريده كبقية البشر أن يتم في جو من الاطمئنان والسلام والاحترام لكل منا ومن بعضنا البعض لأننا كلنا معنيين بهذا الأمر في المقام الاول، والكل يريد أن يعمل وهو(وهي) مطمئن على سلامته من جبروت القهر والبطش والخوف والاستبداد و"الحكرة". وهذه المطالب عامة في جميع المجتمعات وعدم توفرها يقود إلى الجمود والانقباض عن العمل وعن الحركة والتغيير المنشود والدخول في دوامة العنف والتخلف وشقاء البشرية. وهنا يأتي دور ما أطلق عليه المغاربة "المخزن" وما يسمى عند غيرنا بجهاز الدولة وبالإدارة العمومية والبيروقراطية وغيرها من المسميات عند الاختصاصيين وعند غيرهم.إن فهم طبيعة هذا الجهاز ووضعها في إطارها المناسب يسهل فهم التغيير الذي تنشده المجتمعات البشرية ومنها مغربنا الغالي والغني . فالمخزن عندنا هو الجهاز الإداري الذي نعتمد عليه كلنا والذي نعتبره جهاز دولتنا وكياننا ووجودنا ونعتمد عليه في تنظيم حياتنا. إنه العمود الفقري لأنشطتنا كلنا ونعتمد عليه كلنا بدون استثناء فهو بذلك في خدمة كلنا بدون استثناء يعني هو "ديلنا" لأننا أنشأناه(منذ بدأ الإنسان بالتجمع) لنقضي به أمورنا وننظمها كما هو الشأن في جميع المجتمعات البشرية. ولقد شرحت في مقال سابق أن المخزن والإدارة العمومية في الحقيقة ما هي إلا جهاز غير عاقل ولا عاطفي وأن احساسه غير موجود لأنه جهاز وآلة خالية من مميزات الإنسانية تماما مثل السيارة والأشياء غير العاقلة، ومع هذا فهو في غاية الاهمية كوسيلة وضعت تحت تصرف المسئولين فيه لتقديم الخدمات للجميع في إطار قانوني واضح ومحاسبة دقيقة لكل من يعمل في هذا الجهاز بتفويض من الجميع ونيابة عن الجميع. هنا يتجلى حياده ويطمئن الكل على المساواة فيما بينهم من قبل جهاز دولتهم ويثقون في نزاهة تسخيره في خدمة الصالح العام. وكون الإدارة العامة (المخزن) ترعى مصالحنا المشروعة جميعا فإن المجتمعات البشرية في جميع أنحاء العالم تبذل مجهودات جبارة ومضنية في اختيار المسئولين والعاملين فيها. اعتبر شروط ومتطلبات الالتحاق بالوظائف على صعيد الشخصية وعلى صعيد التأهيل الأكاديمي. كل هذا من باب الحرص أن لا يتولى المسئولية في هذا الجهاز إلا من هو أهل لها بحيث يخدم الجميع من خلال الجهاز الذي سمح له أن يعمل فيه في حدود مهام محددة قانونيا وفي المقابل يحصل على مكافأة تضمن له كرم العيش جراء خدمة الجميع في نطاق مهامه، ومع هذا فهو وهي ما زالا مواطنين يعتمدون كغيرهم من المواطنين والمواطنات على هذا الجهاز الإداري لقضاء شئونهم أيضا كبقية أيها الناس. فالعاملون في الجهاز ليسوا فوق الجهاز وليسوا مفوضين أن يستخدموه ويسخروه في أمورهم الشخصية وفي غير ما تسمح به الأعراف والقوانين المرعية في المجتمع. سيارة الشرطة وسيارة أي مصلحة، مثلا، هي للخدمة والعمل التي تحددها النصوص القانونية وليست للتنقل لقضاء الشئون الشخصية على حسابنا إلا في حالة وجود نصوص قانونية تسمح بذلك في حالات معينة مقبولة ومعقولة. وبما أن هذا الجهاز يخدمنا جميعا، فالعاملون فيه أيضا، إضافة إلى حيادهم، لا بد أن يحبوا الخير إلى كل المواطنين وكل الموطنات بما فيهم "إبا مامسة" ويكونوا خاليين من العنصرية ويثبتوا حيادهم ويكونوا، بالعرية تاعرابت، عقلاء وأكفاء وفي غاية النزاهة لأننا نعتمد عليهم جميعا وموقعهم هذا يحتم تمتعهم بالعقلانية والنضج ومهارات في مستوى توقعاتنا من العمل المتقن وفي المسوى المطلوب من الاخلاق والتعامل والمهنية مع أي واحد منا: المتعلمين وغير المتعلمين(هم السواد الأعظم)، ذكورا وإناثا، قرويين وغير قرويين، فقراء وغير فقراء. هذا هو التحدي الذي يواجه كلا منا: من يعمل داخل الإدارة ومن يعمل خارجها. أما الحقيقة التي لا مناص منها هي أن الحياة الاجتماعية ليست ممكنة ولا معنى لها بدون أجهزة الدولة وآلياتها التي نصبها المجتمع لتنظيم هذه الحياة وإعطائها معنى. إن توقعات المجتمع في المقابل هي أن يكون العاملون داخله على المستوى المطلوب في التعامل وقضاء حاجة الناس بكل احترام ووقار لكل منا. ومن طرف كل منا بالمقابل لا بد من احترام وتقدير العاملين في أجهزة الدولة والتنويه بالأكفاء منهم في التفاني في خدمتنا جميعا. أولو يتقاضى كل منهم راتبه ومعاشه من تمويلنا ومن خيرات بلدنا وذلك حسب طاقة كل منا ونشاطه؟ بل نذهب أبعد من هذا ونطالب من يبخل ويتحايل على هذا التمويل أن يلتزم بتسديد ما عليه من الواجبات الجبائية ونتوقع من الذين أسندنا إليهم هذه المهمة أن يسخروا الجزء المسئول في الجهاز الإداري لتطبيق القوانين الرادعة ضد من يخالف مقتضيات قوانين أنظمة حياتنا حتى يأخذ كل ذي حق حقه. هذا هو التغيير المنشود على ما أعتقد ولا يتصور تحقيقه والبداية في تحقيقه إلا من خلال التنفيذ له والإشراف عليه من قبل هذا الجهاز المخزني، لكن هذا الاشراف يفترض الحياد كما تقدم ويفترض عدم الميل إلى جهة على حساب جهة أخرى أو رأي على حساب رأي أو موقف على حساب موقف. ألجهاز هو رهن تصرف الجميع ينفذ ما يقرره الجميع عبر القوانين والقرارات التي تتخذها السلطات المختصة بذلك لفائدة الجميع وعبر المؤسسات التي نعتبرها مؤسساتنا والتي انشأت بالقوانين وأخذ فيها رأي المجتمع. هكذا يحتم واجب الشراكة من كل واحد منا المساهمة في هذا التغيير الذي ننشده جميعا ضمن حقوق وواجبات تكفلها القوانين المنظمة لحياتنا في كل الأوجه. التغيير الذي ننشده ونريده هو تغيير سلمي خال من العنف المادي والمعنوي ولا بد أن يكون في صالحنا جميعا وفي صالح البشرية لأنه مما لا شك فيه أننا إذا تغيرنا إلى الأفضل في حياتنا وتسلحنا بالعلم، فإننا سنكون قد ساهمنا وسنكون قد أثرنا إيجابيا ولو بقدر يسير على الحياة البشرية على هذه البسيطة ومن منا لا يسعده ذلك؟ ليس عيبا أن نبحث جميعا عن أفضل السبل لتحقيق ذلك ولتنظيم حياتنا وعلاقات بعضنا مع البعض في كل المجالات، بل إننا جميعا لو فكرنا بجدية نجد إن الواجب يحتم القيام به. ألا نريد أن يستمر مجتمعنا في البقاء والتطور نحو الأفضل ونحو السعادة التي يتمناها كل واحد من بني البشر في ظل سلام ووئام؟ من من بني البشر لا يوافق ولا يومن بهذا ولا ينشده؟ هناك طبعا من لم يعي هذا ويتجاهله لأن عقله مريض ويعاني من نفسية غير سوية ويخرجه هذا الوضع من الإنسانية التي يحددها العقل السوي والسليم الخالي نسبيا من الإختلالات والأمراض، فلا غرو أن نجد بعض اجتهادات بني البشر تتجسد في بعض ما تتجسد فيه في إنشاء مؤسسات متخصصة في علاج هذا النوع من الأمراض و الإعاقة التي تضر بإنسانيتنا. فعلى سبيل المثال هناك نوع من بني البشر يتلذذ في إيذاء الآخرين معنويا وعلى صعيد التعذيب الجسدي، لكن لا يوجد مجتمع يقبل هذا النوع من السلوك من أي كائن ما كان ويحاربه بشتى الوسائل عبر أجهزة الدولة المختصة لأنها مضرة وتعرقل الانطلاق نحو آفاق مشرقة مليئة بالاطمئنان والسلام والتآزر في الشدة وفي الرخاء لبناء عمران بشري يفخر كل واحد منا بوجوده فيه وبمساهمته في بنائه. وفوق كل هذا سنحصل كلنا من قبل الأجيال الصاعدة ومن أولادنا عند تقييمهم لأنشطتنا على الثناء والشكر على الفرص في الحياة الكريمة والراقية التي ساهمنا في بنائها من أجلنا ومن أجلهم. ألا نشعر آنذاك بالسعادة عندما نحصل على الرضا والتقدير من طرف أطفالنا عندما يصرحون بأننا ما قصرنا في حقهم بالتي هي أحسن وهم يعلمون علم اليقين ويدركون وسع النفس وقدرتها لأنهم سيشهدون على ذلك من أنفسهم؟ ملاحظة: آمل أن لا يتسرع البعض في الاعتقاد بأنني أتربع على وظيفة مجزية مع الدولة ومع غير الدولة, فأنني علي باب الله والبحث العلمي يتطلب التجرد من الاهواء وكل ما أكتبه هو من بنات تصوراتي لا غير. الدكتور عبد الغاني بوشوار