الخطاب الملكي الأخير بمناسبة الذكرى ال38 للمسيرة الخضراء لم يكن موجها فقط إلى حكام الجزائر، مدنيين وعسكريين، جددا ومخضرمين، بل إنه كان خطابا موجها كذلك إلى الداخل، وبالضبط إلى وزارتي الخارجية والداخلية ونخب وأعيان الصحراء. الرسالة الأولى كانت إلى الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، ومن ورائه المؤسسة العسكرية الجزائرية التي لا تريد لنزاع الصحراء أن يحل، وترى أن هذا النزاع أصل تجاري وسياسي وعسكري له فوائد كثيرة في الساحة الجزائرية، ليس أقلها إيهام الجزائريين بأن جارهم المغربي عدو، وأن أجواء التعبئة يجب أن تستمر حول القادة الجزائريين لأن «المروك حكروهم» سنة 1963 وقد يعيدون الكرة مرة أخرى. يبدو أن الملك محمد السادس قد تعب من الدبلوماسية الهادئة مع حكام الجارة الجزائر، ومر الآن إلى دبلوماسية هجومية، لهذا تحدث أول أمس علانية عن حقائب الدولار التي تستعملها الدبلوماسية الجزائرية في الخارج لتأليب الدول ضد المغرب، وتخريب مشروع الحكم الذاتي كحل سياسي واعد. هذا خيار جديد يقول: الجزائر هي التي تحرك جمر نزاع الصحراء حتى يبقى متقدا، وعليها أن تتحمل مسؤولية هذا العمل، ويجب ألا نترك موقفها هذا بعيدا عن الأضواء، بهدف التهدئة والبحث عن حلول دبلوماسية غير ممكنة الآن. لقد جرب الملك محمد السادس عدة طرق ناعمة للتوصل مع الجزائريين إلى حلول وسطى لا غالب فيها ولا مغلوب، والمثير منها غير معروف لعامة الناس، لكن بدون جدوى، وخطابه أمس كان نهاية مرحلة وبداية أخرى. الرسالة الثانية كانت ضمنية إلى وزارة الخارجية والتعاون المغربية وإلى دبلوماسية الرباط. عندما يقول الملك إن عددا من الدول والمنظمات الحكومية وغير الحكومية تتخذ مواقف من نزاع الصحراء ومن أوضاع حقوق الإنسان بناء على معلومات خاطئة، فهذا معناه أن الدبلوماسية المغربية وجيش السفراء والموظفين لا يقومون بعملهم، وأن اللوبيات التي تصرف عليها الدولة الملايين في أوربا وأمريكا لا تشتغل كما يجب، وأنها تبيع لنا الوهم. الدبلوماسي وظيفته أن يبيع صورة بلده، وأن يصحح المغالطات حولها، وأن يطرق كل الأبواب، وهذه الصراحة التي تحدث بها الملك يجب أن تقود إلى إصلاح عميق للآلة الدبلوماسية المعطلة منذ سنوات طويلة. الرسالة الثالثة التي بعثها الملك من وراء خطاب الصراحة أول أمس موجهة إلى وزارة الداخلية التي ظلت تدير ملف الصحراء لسنوات وسنوات. عندما يتحدث الملك عن اقتصاد الريع في الصحراء وعن ضرورة بناء نموذج تنموي جديد في الأقاليم الجنوبية، فهذا معناه أن النموذج القديم أفلس، وأن أموالا كثيرة ضاعت أو تبخرت في رمال الصحراء، والجميع يعرف أن وزارة الداخلية هي التي كانت ولاتزال تدير شؤون الصحراء بطرقها الخاصة، التي كانت نتائجها كارثية باعتراف المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وهو مؤسسة رسمية وليس جهة محايدة أو معارضة. الرسالة الرابعة موجهة إلى نخب وأعيان الصحراء، الذين ظل جلهم يطرح سؤالا واحدا هو: ماذا استفدت من المغرب؟ ولا يطرح سؤالا آخر: ماذا قدمت للمغرب؟ هؤلاء مدعوون إلى التصرف كمواطنين مغاربة. عليهم أن يشاركوا في إدارة هذا النزاع الإقليمي المعقد في الحلو والمر، وفي تأطير المواطنين، وفي بناء هوية صحراوية مغربية لها خصوصيات، لكنها ضمن الوحدة الجامعة للمغاربة. على نخب وأعيان وقبائل الصحراء أن يتوقفوا عن التصرف كمن هم في قاعة انتظار كبيرة ينتظرون من الأممالمتحدة أن تحسم وضعهم، ولهذا لا يجب عليهم أن يتحركوا كي لا يخسروا شيئا غدا أو بعد غد. عليهم أن يتصرفوا إما كمغاربة ووحدويين وأن يشاركوا في بناء وطنهم، وإما أن يعلنوا اختيارات أخرى ويتصرفوا بمقتضاها، وألا يقولوا مثل ذلك الأعرابي الذي سئل في زمن الفتنة والحرب بين المسلمين عن موقفه من صراع علي ومعاوية فقال: «الصلاة مع علي أتم، والأكل مع معاوية أدسم، والوقوف في التل وقت الحرب أسلم».