مع كل خطوة يخطوها العالم في مجالات العلم والتكنولوجيا، تظهر ظاهرة مقلقة تكمن في التراجع القيمي والسلوكي، وهي ظاهرة تجعلنا نتساءل: كيف يمكن للتقدم التقني أن يسير بالتوازي مع هذا الانحدار الأخلاقي؟ في وقت باتت فيه المعلومة متاحة بضغطة زر، حيث يستطيع الجميع الوصول إلى بحر من المعرفة، يبدو وكأن الفجوة بين التقدم العلمي والانحدار القيمي تتسع أكثر فأكثر. عصر التكنولوجيا الحديث شهد تطورات هائلة أثرت على حياتنا اليومية، من الهواتف الذكية إلى الذكاء الاصطناعي. ومع ذلك، لم يُترجم هذا التطور المادي إلى ارتقاء في السلوكيات أو تطور في القيم الاجتماعية. على العكس، نشهد تراجعًا مقلقًا يُثير أسئلة حول أسباب هذا التناقض. لماذا لم يواكب التطور العلمي تطورًا مماثلًا في التفكير والسلوك؟ ولماذا يبدو الإنسان أكثر تراجعًا في حكمه على الأمور رغم الأدوات المتاحة لتحليلها؟ على الساحة السياسية، تبرز إشكالية كبرى تتعلق بمفهوم التعددية والديمقراطية. فبعدما كان يُنظر إلى المعارضة على أنها شريك أساسي في التنمية، تحولت في أذهان بعض السياسيين إلى عدو يجب تحجيمه وتخوينه. هذا التحول لا يشكل فقط تهديدًا للديمقراطية، بل يقوّض أسس الحوار المجتمعي. كيف يمكن لأي نظام سياسي أن يحقق التنمية بينما يُقصي كل رأي مخالف ويغلق أبواب النقاش؟ الصحافة، التي يُفترض أن تكون لسان حال المجتمع ومرآته الناقدة، تواجه اليوم عداوة غير مسبوقة من بعض الجهات التي ترى في النقد البناء تهديدًا لها. بدلًا من احتضان الصحافة كأداة للإصلاح، تُدرَج ضمن قوائم الأعداء، ويُمارَس ضدها الضغط والتكميم. هذا الموقف لا يعكس فقط ضعفًا في قبول الرأي الآخر، بل يُظهر خوفًا من مواجهة الأخطاء والسعي نحو الإصلاح. الأكثر خطورة هو ما يسوّقه البعض من أفكار باعتبارها حقائق مطلقة لا تقبل النقاش. هذا النمط من التفكير يُعبّر عن ضعف فكري أكثر منه قوة، حيث يسعى هؤلاء إلى التغطية على عجزهم بإلغاء آراء الآخرين واحتكار الحقيقة. العمل الحقيقي مليء بالأخطاء، ولكن التحدي يكمن في تصحيحها، وليس في ادعاء الكمال. هل المشكلة تكمن فينا، نحن الذين لم نتمكن من ملاحقة التطور الفكري، أم أن هناك تراجعًا عالميًا في القيم الإنسانية ترك فراغًا مقلقًا؟ هذه الأسئلة لا تُطرح من باب جلد الذات، بل من باب البحث عن حلول تعيد التوازن بين التقدم العلمي والقيم الإنسانية. إن المرحلة الحالية تتطلب وقفة تأملية وجادة لإعادة تقييم السلوكيات والممارسات. نحن بحاجة إلى إعادة إحياء القيم التي تجعل من المعرفة وسيلة للتقدم، لا أداة للانتكاس. علينا أن ندرك الفرق بين النقد البناء والعداء، وبين الأخطاء الناتجة عن اجتهاد والجرائم الناتجة عن فساد. مواجهة هذه التحديات تبدأ من مراجعة الذات والعمل على تعزيز الحوار وتقبل الآخر. الطريق إلى التغيير لن يكون سهلًا، لكنه ضروري لبناء مجتمع يوازن بين التقدم المادي والقيم الإنسانية.