بدت المكتبة الوطنية بالرباط، مساء الجمعة الماضية، غاصة بثلاثة أجيال من الاتحاديين وعموم اليساريين، جاؤوا لحضور فعاليات ندوة كبيرة أشرف عليها عبد الرحمان اليوسفي شخصيا، لتخليد نصف قرن على اختطاف المهدي بنبركة. حتى في هذا اللقاء المفعم بالدلالات السياسية لم يكسر الاتحاديون قاعدة أن الموت هو ما يجمعهم وليس الحياة، وأنهم لا يلتقون، بكل أطيافهم القديمة والجديدة، إلا في المقابر وبيوت العزاء. هذه المرة أيضا التقوا في ذكرى اختطاف رمز من رموزهم. ولأن الراحل بدون قبر ولا شهادة وفاة، فإن الاتحاديين القدماء والجدد التقوا في قاعة كبيرة في المكتبة الوطنية ليجددوا الطلب القديم/الجديد: قبر وشهادة وفاة واعتراف بالحقيقة واعتذار للعائلة الصغيرة والكبيرة. لم يخرج الاتحاديون ذلك المساء بيد فارغة.. خرجوا وفي حوزتهم نصف حقيقة ونصف اعتراف ونصف اعتذار ونصف تكريم للزعيم الكبير المهدي بنبركة. الرسالة الملكية إلى اللقاء التأبيني الكبير حملت ما يشبه هذه المعاني، فيما بقي النصف الآخر معلقا إلى أجل لا يعرف أحد إن كان قريبا أو بعيدا. يقول الملك محمد السادس في رسالته إلى اليوسفي وأصدقائه: «لقد حرصنا على مشاركتكم هذا الحدث، دون عقد أو مركب نقص من هذه القضية، تقديرا لمكانة المهدي بنبركة لدينا ولدى المغاربة، فبنبركة كان رجل سلم قريبا من العائلة الملكية.. وكيفما كان الحال، فبنبركة قد دخل التاريخ، وليس هناك تاريخ سيّئ وتاريخ جيد، وإنما هناك تاريخ كما هو.. يجب ألا ننسى أن أعداء المغرب قد قاموا باستغلال القضية للإساءة إلى صورة البلد». في الرسالة الملكية، التي تلاها اليوسفي على الحضور الكثيف الذي حضر إلى اللقاء، كانت هناك رسائل سياسية أخرى نلتقط بعضها: أولا: الرسالة الأولى هي الرسالة الملكية نفسها إلى لقاء حساس يتعلق بتخليد ذكرى 50 سنة على اختطاف العدو الأول للملك الراحل الحسن الثاني. إن الملك الحالي يقول في هذه الرسالة: «إن ملف اختطاف المهدي بنبركة ملف لا عقدة لي تجاهه، وهي قضية لا تخصني لا من قريب ولا من بعيد، وإن ما جرى كان جزءا من صراعات مرحلة ما بعد الاستقلال، وإن المصالحة مع الاتحاديين بالنسبة إلي قد جرت في حياة والدي عندما وافق على مشاركتي في ندوة مؤسسة عبد الرحيم بوعبيد سنة 1997». ثانيا: جرت العادة أن تتلى الرسائل الملكية من قبل مستشاري الملك أو من قبل الوزراء المعنيين بمضمون هذه الرسائل، ورغم أن السيد عمر عزيمان، مستشار الملك، كان حاضرا في اللقاء، فإن القصر أصر على أن يكلف اليوسفي، وليس أحدا سواه، بقراءة رسالته إلى الاتحاديين في ذكرى اختطاف بنبركة، وهي رسالة مزدوجة فيها تكريم لليوسفي الذي خرج من القصر غاضبا سنة 2002، بعدما جرى الاستغناء عن خدماته ضدا على المنهجية الديمقراطية التي حملت حزب الوردة إلى المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، حيث جرى حرمان اليوسفي من ولاية ثانية، واستبداله بتقنوقراطي اسمه إدريس جطو. أما الدلالة الثانية لتكليف الملك وزيره الأول السابق بقراءة الرسالة الملكية في المناسبة أعلاه فهي إشارة إلى أن اليوسفي مازال مخاطبا معتمدا من القصر، وأن اختيار الملك بعث رسالة إلى اليوسفي وليس إلى إدريس لشكر، الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي (الذي نظم قبل يوم واحد ذكرى خاصة به في الموضوع نفسه)، يحمل دلالات غير سارة إلى القيادة الحالية للحزب التي اختارت مقاطعة لقاء اليوسفي وحتى التشويش عليه. الرسالة الثالثة التي حملها المكتوب الملكي إلى الاتحاديين تقول إن ملف بنبركة ملف من اختصاص المؤرخين وليس شغل السياسيين، وإن جثة المهدي الغائبة يجب ألا يطلبها أحد عند أبواب القصر الملكي بالرباط، وإن كل ما يمكن قوله حول التاريخ الأسود للانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان قيل من قبل هيئة الإنصاف والمصالحة... لهذا جاءت الرسالة الملكية إلى الاتحاديين خالية من كلمة واحدة لم تذكر وهي: «الحقيقة»... جاء الاعتراف بمكانة الزعيم الراحل، وجاء التنويه بمساهمته الوطنية، لكن حقيقة اختطافه سنة 1965، أو ما يعرفه المغرب عن هذه الحادثة، فهو أمر خارج التفكير الآن. الدولة في المغرب لها منطقها، وهي لا تنساه أمام الأحياء كما الأموات، في الفرح كما في الحزن، مع الأصدقاء كما مع الأعداء