في مقاله الأخير المنشور على موقعه، يقول الدكتور أحمد الريسوني ما نصه: "معلوم أن مشاركة الإسلاميين في الحكم وتدبير الشأن العام أصبحت تأتي اليوم عن طريق صناديق الاقتراع، أي بأصوات الناخبين واختيارهم، وهذه الأصوات التي أتت بالإسلاميين اليوم، هي نفسها قد تذهب بهم وتأتي بغيرهم غدا. بمعنى أن بقاء الإسلاميين في الحكم أصبح في قبضة الناخبين وتحت رضاهم أو سخطهم. ولذلك يتساءل بعض الإسلاميين المنتخبين: هل علينا الآن أن نُرضيَ الجماهير التي صوتت علينا، ونعطي الأولوية لطلباتها ورغباتها ومصالحها، أم علينا أن نرضي الشرع ونعطي الأولوية والكلمة العليا لأحكامه وطلباته؟ وطَرحُ الإشكال والتساؤلِ بهذه الصيغة، إنما ينشأ عن غفلة الصالحين وسذاجة بعض المتدينين، من الجهلة بمقاصد الدين.. وهناك من يطرحون هذا الموضوع بطريقة أخرى فيها مكر ودهاء، فيقولون: هل سيبقى الإسلاميون أوفياء لشعاراتهم ومواقفهم؛ فيمنعوا الخمر ومحلاته والربا وبنوكه؟ وهل سيمنعون الغناء والسينما والمسلسلات؟ وهل سيفرضون الحجاب على النساء، ويمنعون الاختلاط في المدارس والجامعات والحافلات...؟ أم أنهم سيسكتون عن هذه الأمور وينسونها، ويشتغلون — كسائر الأحزاب — بما يجلب الأصوات ويرضي المصوتين في الانتخابات؟ والجواب عن هذه القضية على وجهين: إجمالي، وتفصيلي أما الجواب الإجمالي: فمفاده أنْ نعلم أنَّ أحكام الشريعة هي عين المصلحة الحقيقية للناس أفرادا وجماعة، وأن المصلحة الحقيقية هي أيضا شريعة ويجب أن تُتخذ شريعة. وأنه لا تعارض بين الشريعة الحقيقية والمصلحة الحقيقية، ولا تضاد بين ما تريده الشريعة الإسلامية وما تريده الشعوب الإسلامية..". ثم ذكر الشيخ مجموعة من القواعد والأصول التي تعزز ما ذهب إليه،وهي قواعد متينة عليها مذهب الجمهور، إلا أن قوله : (لا تضاد بين ما تريده الشريعة الإسلامية وما تريده الشعوب الإسلامية..) جملة تحتاج إلى تفصيل وتوضيح ومزيد بيان،وهي غير مسلمة كما سنرى ، و هذه الجملة عليها مدار الخلاف بين الإسلام السياسي الذي يرحب بالديمقراطية حكما بين الشعوب ومن تختارهم من حكام، وبين السلفية التكفيرية التي تعتبر التحاكم لصناديق الاقتراع كفر، وترفع شعار: (ان الحكم إلا لله)، وهي التي تفرعت عنها جماعات إرهابية تنشر الدمار والرعب في البلاد الإسلامية وغيرها، وهو ما لا يخفى عن شيخنا، لكنه بحاجة إلى توضيح.. بداية نؤكد أن الإسلاميين إذا انتخبهم الناس،فعلى أساس برنامج تعاقدي بينهم وبين الناخبين، فعليهم الوفاء بما التزموا به أثناءالحملة الانتخابية،لا أن يطرحوا مثل تلك الأسئلة،إلا إذا كانت متضمنة في برنامجهم،أو برنامج من تحالفوا معهم من الأحزاب الفائزة. لنعد الآن لمقولة ولا تضاد بين ما تريده الشريعة الإسلامية وما تريده الشعوب الإسلامية..) : من حيث الواقع تشهد الانتخابات منذ أكثر من ثلاثة عقود أن الشعوب الإسلامية تختار الإسلاميين على غيرهم كلما أتيحت لها فرصة التعبير الحر دون تزوير أو إكراه، لكن الإعلام والثقافة ومناهج التعليم التي احتكرها التيار العلماني بقوة الحديد والنار بدعم غربي مكشوف، منذ نصف قرن، لعبت دورا كبيرا في تغيير القناعات والرأي العام وإفساد الذوق لدى هذه الشعوب، ولهذا طرأت تحولات جذرية في هذه المجتمعات.. ومن جهتها استطاعت الدعوة الإسلامية والمساجد والصحوة الإسلامية مدعومة بأموال خليجية أن تحافظ على هوية الأمة في وجه تلك الرياح العاتية. ويمكن أن نقرر بكل اطمئنان أن الشعوب اليوم تتجه بأصواتها إلى التيار الإسلامي حفظا لحقوقها المالية لا غير، وطلبا للاستقرار السياسي، بعد أن جربت أحزاب لائكية من توجهات ليبرالية واشتراكية وقومية، كلها تورطت في الفساد المالي وتحالفت مع ديكتاتوريات مستبدة، ولا شك أن حفظ المال وتحقيق الاستقرار من مقاصد الشريعة الخمس الضرورية التي تجمع سائر الأمم والملل على معياريتها في وصف الحكم بالرشد أو الضلال، لكن لا يستطيع أحد اليوم أن يجزم أن الناس تصوت على الإسلاميين بسبب مرجعيتهم الدينية أو لأنهم سيحاربون الدعارة والخمر ومهرجانات الفجور والإعلام المنحط، وسيقفون في وجه الحرية الجنسية والإجهاض.. وإن كانوا (أي الإسلاميين) معروفون لدى الجميع بعدائهم الشديد لتلك المظاهر المنافية لقطعيات الدين، بل من المؤكد أنهم حصدوا أصوات حتى الذين ينافي سلوكهم اليومي ما تدعو إليه مرجعية الإسلاميين. إن تحريف الإرادة الشعبية من خلال التحكم في وسائل الإعلام وبرامج التعليم والثقافة، وخلق رأي عام مخالف لقطعيات الدين أحيانا، ليست الديمقراطية الحقة مسؤولة عنه، بل الديمقراطية تدعو لحرية الجميع في إبداء الرأي عبر تلك الوسائل، وتعطي الحزب الفائز أو التحالف الفائز في الانتخابات بالأغلبية الحق في تسيير تلك القطاعات من خلال تنزيل برنامجه، كما تمنح الأقلية حق النقد من زاوية المعارضة..لهذاهناك شق واقعي وآخر نظري في هذه المسألة التي حصل فيها التباس شديد. في مقال الشيخ ذو الفقار بلعويدي المنشور في30 شهر غشت المنصرم على موقع هوية بريس يقول: (والديمقراطيون إن كنا نحب لهم الخير، فهم في أمس الحاجة أن نكون صرحاء معهم، وأن نبين لهم أن الإسلام ليس هو الديمقراطية، وأنه خير منها، وأنه غير قابل للامتزاج بها. إنهم في أمس الحاجة أن يعرفوا رأينا بصراحة في ديمقراطيتهم؛ فإن الإسلام من عند الله، أما ديمقراطيتهم فهي من صنع البشر. فهم في حاجة أن نردهم إلى الإسلام. ونحن لسنا في حاجة أن نرد إلى ديمقراطيتهم، كما أنه ليس في الحقيقة ما يطلق عليه «الإسلام الديمقراطي»، لأنه ليس تمت وسط بين الإسلام والديمقراطية، فالقضية إما حكم الله وشريعته وهذا هو الإسلام، وإما حكم الشعب وأهواؤه وهذه هي الديمقراطية.. هذه هي الحقيقة، أما التهرب من مواجهة الديمقراطيين ومصارحتهم بالكلمة الحاسمة مع الانخراط معهم في شراك ديمقراطيتهم فهذا ليس من المدافعة في شيء ولكنه العجز الذي دفع بعض الغيورين باستبدال الذي هو أدنى من مسيرات ومظاهرات ووقفات واعتصامات وصياحات الرعاع وهتافات العامة بالذي هو خير؛ والذي هو صدع أهل العلم والفضل بالحق. نعم هذا هو البديل الذي تفتقده الأمة في زمننا الحالي وبفقدانه تجرأ العوام والرعاع والغوغاء من بعض البرلمانيين وبعض الصحفيين والمفكرين على التدخل في المصالح العامة..) ويقول الدكتور البشير عصام المراكشي في مقاله المنشور بنفس الموقع بتاريخ 19 غشت الماضي تحت عنوان:(رأيي في الانتخابات القادمة) ما نصه: " الديمقراطية من حيث هي مذهب فكري بشري يعطي السيادة للشعب: مناقضة للإسلام أشد ما تكون المناقضة. فالسيادة في الإسلام للشريعة، والحكم لله وحده لا شريك له. ولو اجتمع الناس أجمعون على تحليل فعل أو تحريمه، لم يكن بذلك حلالا ولا حراما، إلا إن صدّقت ذلك نصوص الشرع..". والحقيقة الجلية أن الديمقراطية لا تحل حراما ولا تحرم حلالا، فهذا مجاله الفتوى، وعلى فرض أن المجلس التشريعي أقر قوانين مناقضة لقطعي من قطعيات الدين، فهذا لا يعني أنه أصبح حلالا، بل أصبح مرده لضمير الناس إن شاؤوا اقتحموا تلك الحمى، وإن شاؤوا امتنعوا، ويوم القيامة يقولون: (ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا). لنفرض الآن أن الإعلام الموجه والتعليم اللائكي والانفتاح على العالم فعلوا فعلهم في صناعة رأي عام يوافق هوى الناس ويخالف بعض قطعيات الدين، ولو بعد عقود، فجرت انتخابات نزيهة وحرة اختارت من خلالها الأغلبية التيار الحداثي الذي يعلي من شأن الحرية الجنسية والشذوذ الجنسي وحرية الإفطار العلني في رمضان وغيرها من القيم الحداثية، فهل يعني هذا أن الديمقراطية كفر لأنها قادتنا لتلك المخالفات من خلال تحكيم الأغلبية عوض جعل السيادة العليا للشريعة؟..أبدا.. الديمقراطية في هذه الحالة كشفت لنا عن معتقدات وميول الأغلبية داخل المجتمع، وأرشدتنا إلى أن نعود إلى قواعد الدعوة والبلاغ المبين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والديمقراطية تتيح لنا ذلك باعتبارنا أصبحنا أقلية في مجتمع مفتون أو فاجر يحتاج إلى نصح ودعوة بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، وليس من خلال الإكراه و"الدعشنة"، والديمقراطية في هذه الحال تتيح لنا فرصة تشكيل أحزاب أقلية ترفع صوتها في منابر ومؤسسات الدولة لتقول هذا مخالف لشرع الله، وتتيح لنا الفرصة أن نخاطب الناس من خلال وسائل الإعلام بعد أن نأخذ حظنا منها دون منّ من أحد.. هذه هي الديمقراطية المفترى عليها: من جهة اللآئكيين لما سهروا على تزوير إرادة الشعوب أو احتكروا وسائل الإعلام والتعليم والثقافة أو خالفوا الدستور الذي يعتبر القانون الأسمى لكل أمة، والذي ينص على "إسلامية الدولة"، بمعنى إلغاء أي قانون يخالف شريعة هذه الأمة.. ومن جهة المتشددين الإسلاميين لما زعموا أن الديمقراطية كفر لأنها تتيح للأغلبية أن تعبر عن رأي مخالف للشريعة..وكأنهم لم يتأملوا قوله تعالى: (لا إكراه في الدين) وقوله عز وجل: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مومنين) وقوله سبحانه: (وما على الرسول إلا البلاغ) وقوله: ( وما أنت عليهم بوكيل)..(وما أنت عليهم بحفيظ)..وقوله جل وعلا : (فذكر إنما أنت مذكر، لست عليهم بمسيطر)، قال في تأويلها شيخ المفسرين الإمام الطبري:(إنما أرسلتك مذكرا لتذكرهم نعمتي عندهم، وتعرفهم الازم لها، وتعظهم..لست عليهم بمسلط، ولا أنت بجبار تحملهم على ما تريد، بل كلهم إلي: دعهم لي ولحكمي..). فهل بعد هذا البيان بيان؟