كل التوابل بالمطبخ مختلفة الألوان والتي تحمل نكهات مختلفة ليست ذي لذة في التعريف بالطبق وولاءاته وانحيازاته لزخرافة أناميل الطاهي المبدع، فالنكهات لا تصنع هوية ولا تضفي طابعا على طبقا أو تتداخل معه في أذواق، بل التوابل . اليوم أصبحت ثقافة الطهي، المخزون الفكري في ذاكرتي منذ أن كنت طفلا ، و توجت بدراستي الطهي وفنونه على يد كبير الأساتذة بالمغرب بمعهد الفندقة والسياحة بتمودابي الشيف " كريم سفيان " ، و اكتسبت تجربة من التدريب متنوعة لا تشبه غيرها من تجارب كبار الطهاة " مطاعم إسبانية ، فنادق ... " . ظلت التجربة شاهدة وخالدة دونت وطبعت مسار نجاح في مسيرتي المطبخية . أثناء إعداد الطعام بالمطبخ يمثل ذاك جنوني و لغة من نوع آخر، يكمن سحرها في رسمها الابتسامة على وجه الضيف الذي يتناولها، فتكون بمثابة الإشارة الأولى أنك لامسته عن قرب وكسرت حواجز اجتماعية ولدت البعد بيني وبينه . كنت صغيرا استغل فرصة الأم تغيب عن المنزل حتى أحضر بعض الأطباق وكانت تقول " كتوحم ياك .. وكتبدا تقول نسايم ووسساخ في الكوزينة .. وفتح سرجم يخرج دخان ... " ، وما زلت حتى اليوم أشعر بنفس الشغف الذي كان ينتابني حينها . و قد تعود أصول شغفي هذا إلى جدتي من ناحية والدي، فهي كانت تحكي لي وتطبخ افضل الأطباق التقليدية أفضلها كان " بوذن ، الكسكس ... " . انطلق الحلم من مراقبة دائمة لأسلوب جدتي وأمي في المطبخ باعتباري كبير إخواتي ، علموني أشياء كثيرة ما زلت أحتفظ بها حتى الآن بذاكراتي . الأطباق التقليدية " غمارية " الذي كان الأجداد يطبخونها كانت كنز من المعرفة الغذائية يتم طهيها لا شعوريا في المطبخ برحلة رماد ، فيسكن الروح أكثر من العقل مع التوابل والأعشاب الطبيعية . بعد حصولي على البكالوريا ، و دراستي الجامعية في نفس الوقت قررت التوجه إلى علم الطبخ وفنونه ، وساندني والدي في قراري هذا وأصدقائي منهم الأخ والرفيق " عبد الحق بوزكري " الذي يعد وطننا كبير في قلبي . قررت التوجه الى معهد الفندقة والسياحة بتطوان ، كان هناك حلم مشروع ذات وقلب . درست سنتين ، حملت التدريب والممارسة نظريا وتطبيقيا . اليوم أن تصبح طاهيا بأفضل لؤلؤة فندقية بساحل تمودابي ؛ يلزمك كثيرا من الجهد ، التعب والصبر لتتسلق السلم درجات ، اليوم مررت بمراحل التي تصنع الشيف ، ولكني صرت أصبو إلى طفل شغوف بعالم الطهي ومهوس به لحد الجنون كما يقول لي اخي " خالد هروس " صاحب المركب السياحي المشترك مع إخواته " ثريا " . وبطريقة أصح صرت مهتما أكثر بمجال المطاعم والتغذية وعالمها . الطهي مثل عالم الأزياء .. لا بد أن يعود إلى الجذور ، وإعتقادي أن كل شيف عملت معه أخذت منه شيئا ما ، فقد تدربت بأفضل مطاعم مدينة الفنيدق " المحارة الذهبية ، ثريا " ، و فور تخرجي في المعهد ، كان لي الحظ في العمل بالفندق لحد الآن الذي كنت تدربت به أربعة أشهر . ما يعحبني في عالم الأكل والذي يمكن اختصاره بدمج المطابخ العالمية في قالب بانورامي ورومانسي ، أي الآصالة والأسس والركيزة الفنية في المطبخ . من الذكريات التي لا لن أنسها هي إعدادي لأول مرة بالفندق في حياتي الكسكس لفنانين عالميين ، حيث كان الفندق في استضافة مهرجانا دوليا لسينما . هنا يبقى بنظري أن الشيف الناجح هو الذي يعد أطباقه من مكونات جيدة، " لكل شيف أسلوبه في العمل، لكن إذا لم يترافق مع اختيار مكونات جيدة للطبق الذي يعده فالفشل يكون في انتظاره " . إنني اليوم فخور بما استطاعت تحقيقه من جراء الخلفية الثقافية الغنية بين رحلات مطبخية . فقد أعود يوما ما إلى موطني " قاع أسراس " لأفتتح فيها مطعم خاصا ، ولكن قبل ذلك حلمي تأسيس نادي طهاة البحر الأبيض المتوسط وإخراجه للوجود بنظرة أكاديمية لفنون الطهي ، وإطلاق نسخة بنكهة شبابية عالمية لطهاة حوض البحر الأبيض المتوسط . عنوان أنيق وأصيل، إضافة إلى صحي و طبيعي بتقاليده ، وأيضا عريض لأسلوب كل شيف ناجح ، ولكن وبشكل عام فإن السفر يولد خلطات من المذاقات والروائح دون أن ننسى المعرفة والثقافة الناتجتين عن حضارة كل مطبخ ، فأنا حتى اليوم لا يمكنني أن أنسى رائحة الدجاج المشوي، التي كانت تتسلل إلى أنفي من أحد مطاعم مرتيل وأنا ذاهب إلى عملي . لقد بدأت من الصفر ، عندما تركت كل شيء في مطعم الفنيدق وتوجهت إلى مرتيل . لم أترك على الطريق ولكن لم يكن أحد يمسك بيدي، بل جاهدت وعملت بكد وآلم واجتهاد ، وهذا ما أنصح به جيل اليوم من الشباب الذي يرغب في دخول مجال الطهي، بأسرار وتنوع وعراقة هي لفن الطبخ المغربي٬ "رمز التوافق بين المعتقدات الثقافية" . فالمغرب ظل متشبثا بتقاليده٬ وهو البلد المعروف بتعدديته ، ويحمل لمحة من مهارة وحفاوة وفن الطبخ المغربي٬ وانفتاحه على مطابخ العالم . يبقى الطبخ وعاء للتاريخ بفضل العناصر والأدوات التي يستخدمها ٬ وأيضا بسبب الروابط التي يتم نسجها حول مأدبة طعم ٬ فالمطبخ المغربي كان في عمق تاريخ البحر الأبيض المتوسط لأنه من خلال هذا الفن يمكن الاطلاع على تاريخ الأمازيغ والعرب والمسلمين واليهود٬ وكذا التاريخ الحديث لفرنسا ووجودها في المملكة. كما "يقولون إن الموسيقى تلين القلوب٬ كذلك فن الطبخ يسهل اللقاء واللغة، إن معرفة تاريخ الطعام يشكل أداة لتقريب الشعوب . أخيرا المطبخ هو أكبر من مجرد وصفات وأطباق ٬ إنه طريقة للتقاسم والتواصل ونسج علاقات بين الناس ٬ فالمطبخ هو " أحد أفضل الوسائل الدبلوماسية٬ ووسيلة لمعرفة ثقافة مختلفة ".