تشاء الأقدار أن تضع الشعب الجزائري الشقيق بين مخالب نظام لا يخشى الله، فبالأحرى أن يخشى عباده، وذلك من خلال السيطرة واحتكار موارده التي حباه الله بها من نفط وغاز وخيرات تحت الأرض وفوقها كافية لتجعله في مأمن من الخوف والجوع والتسول والاتكال. وبما أن هذا النظام اختار، عن قصد ووعي وسابق إصرار، سياسة التجويع لضمان التحكم فيه وبالتالي ضمان استمراره أطول فترة ممكنة، فإنه دفع به ليصبح شعبا اتكاليا ينتظر ما يمكن أن تصل إليه يداه مما بقي من مخلفات اقتصاد الريع، خاصة مع الغياب المهول للمشاريع التنموية التي كان من المفروض أن تبادر بها الدولة، وغياب الإرادة السياسية في أي إصلاح حقيقي لأحوال البلاد والعباد، مع الوقوف سدا منيعا أمام المد الديمقراطي الذي بدأ في اجتياح الجزائر، على الأخص بعد انطلاق الثورة في تونس وليبيا، والإصلاحات السياسية والدستورية الهامة التي عرفها المغرب، لتظل الجزائر وحدها، بين جيرانها، حبيسة نظام طغمة عسكرية تحكم البلاد ب"السباط"، وتغلق جميع المنافذ التي يمكن أن يتسرب منها نسيم التغيير والإصلاح، ومعها الحدود مع جيرانها بدعوى محاربة التهريب. النظام في الجزائر يعرف قبل غيره أن الوضع الطبيعي لحدوده الطويلة العريضة جعل منها محطة تهريب بامتياز، وفي كل محطة نقاط متناثرة هنا وهناك، مما جعل نسبة كبيرة من الجزائريين يتعاطون أعمال التهريب، ويتحولون إلى مهربين لمختلف المواد تصديرا واستيرادا: تهريب النفط والغاز نحو البلدان المجاورة عبر إقامة شبكات لذلك، في مقابل إدخال مواد غذائية وأخرى مصنعة من القهوة والشاي وحتى النعناع إلى الأكباش والخرفان والأواني المنزلية والملابس والتمر والحليب وغيرها سواء تلك القادمة من المغرب أو من تونس أو من تركيا. لكن النظام في الجزائر عوض أن تتساءل: لماذا أصبح الجزائري مهربا، فإنها عمدت، على العكس من ذلك، إلى سد أبواب الرزق والعيش الكريم في وجهه، ليمتهن حرفة سهلة تدر عليه موارد قارة وضخمة. ومع سد هذه الأبواب في وجه الشعب، فإن النظام الحاكم بالجزائر سيركب رأسه ويقبل على خطوة غير محسوبة العواقب تماما، ظانا منه أنه حقق " فتحا مبينا "، تتمثل في إغلاق الحدود في وجه التهريب. فماذا حدث؟ حدث ما لم يضرب له هذا النظام أي حساب، فانقلب عليه سحره الذي كان يريد به إلحاق الضرر بجيرانه الأقربين. وهكذا أصبح المتضرر الأول هم أبناء الشعب الجزائري الذين تعطلوا عن العمل والتحقوا بجيش المعطلين الموجودين. دليلنا على هذه التظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، بل المواجهات مع قوات الأمن، التي لم تسلم منها أي جهة أو ولاية من جهات وولايات الجزائر، إلى جانب التفجيرات التي وقعت في المدن المحاذية للحدود، وتفجير محطات الوقود، حتى في قلب العاصمة نفسها، وإحراق وتخريب منشآت ومرافق تابعة للدولة. لقد كان الغرض من وراء شن ما يسمى بالحرب على التهريب، تصدير المشاكل إلى المغرب، وتفجير الأوضاع فيه. وهذا يدل على عدمية نظرة قديمة ظلت تتحكم في سلوكيات نظام العسكر بالجزائر، وعلى غباء في التحليل والتشخيص. ذلك أن المغرب هو أيضا متضرر أشد ما يكون الضرر من التهريب. وميزة المملكة أنها لم تختر سياسة الهروب إلى الأمام، بل شرعت في مواجهة المشكل بعقلانية وجدية، وبدون حاجة إلى اللغط والدجل، وافتعال مناورات "الفتح المبين" التي تحولت إلى الخسران المبين، من خلال إعادة فتح محطات الوقود المغلقة بسبب هذا التهريب، وفتح أوراش تنموية على طول الشريط الممتد من السعيدية إلى طنجة. وقد كانت قراءة جلالة الملك محمد السادس، منذ اعتلائه العرش، استباقية وصائبة، بوضعها خطة محكمة ومندمجة لتأهيل المنطقة الشمالية الشرقية تأهيلا يساير العصر: إنشاء المنطقة السياحية بالسعيدية التي حولتها إلى جوهرة زرقاء لا يوجد مثيل لها بالمنطقة المغاربية؛ التغيير الجذري الذي طرأ على عاصمة الجهة الشرقية وجدة؛ توسيع مشروع مارتشيكا بالناظور، إقامة الميناء الكبير بين هذه الأخيرة والحسيمة؛ تمديد الطريق الشاطئية الممتدة من السعيدية إلى طنجة؛ تمديد الطريق السيار إلى وجدة، وخط السكك الحديدية إلى بني نصار بالناظور... وغيرها من أوراش التنمية التي مازالت مفنوحة. هذا هو الأسلوب الذي اختاره المغرب لمحاربة التهريب من خلال برنامج شامل لتأهيل المناطق المذكورة، وليس بالتسابق إلى العداء وافتعال المشاكل بين الأشقاء. لكن، ماذا فعل النظام بالجزائر إزاء هذا؟ اختارت، كعادتها، نهج سياسة الهروب إلى الأمام. فكان أول عمل تقوم به هو حفر الخنادق في المناطق المحاذية للحدود مع المملكة على أساس أن حفر الخنادق سيقطع الأرزاق من دون أن يدرك مهندسو هذه العملية أنهم يحفرون قبر نظامهم بأيديهم، لأنها بكل بساطة لم تسد أبواب الرزق والعيش على المغاربة بل على الشعب الجزائري بالدرجة الأولى. لذلك لم يتأخر أبناء الشعب الجزائري في ردم هذه الخنادق. إزاء هذه الأشكال من مسلسل العداء الذي تبذل من أجله الطغمة الحاكمة في الجزائر كل موارد وطاقات الدولة فقط لمعاكسة المغرب والتشويش على مساره الديمقراطي والتنموي، نقول لها: إذا لم يكفيك حفر الخنادق فاشرعي في بناء الجدران على طول حدودك. فالخاسر الأول والأكبر لن يكون في النهاية سوى نظام الطغمة المتحكمة في الجزائر.