ما بعد ثورة الياسمين بتونس، ظهرت مقالات وكتابات تبشر بفرضية امتداد تجربة تونس في التغيير السياسي إلى باقي الدول العربية التي يشهد حالها على معطيات شبيهة بمعطيات الحالة التونسية. لكن القراءة المتأنية لتلك الكتابات تسمح لنا بوصفها وتوصيفها بالسطحية أو بالمتسرعة، وإن صدرت تلك القراءات عن متخصصين في الاجتماع والسياسة والاقتصاد. فالخلاصات المذكورة هي عبارة عن إسقاط واقع على واقع، ووضع وطني على وضع وطني آخر، دون أن تعتمد استنتاجاتها على أدوات التحليل التاريخي والبنيوي والوظيفي والواقعي في دراسة أوضاع البلدان التي يشابه واقعها واقع الفعل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في تونس. صحيح أنّ ثمة تقارب يمكن نسجه بين الوضع التونسي ومثيله في بعض البلدان، من بينها المغرب، لكن الخصوصيات التاريخية والبنيوية والظرفية للدول والمجتمعات تختلف وتتمايز. ففي الوقت الذي نسجل فيه أنّ واقعة إقدام شخص على إحراق جسده قد أدت إلى اندلاع شرارة العنف المدني في تونس، نتساءل لماذا لم تندلع، إلى حد الساعة، شرارة ذلك العنف في الجزائر ومصر وموريتانيا حيث أقدم أشخاص آخرون، على الانتحار على طريقة محمد بوعزيزي؟ تحاشت تلك الكتابات الحديث عن العوامل البنيوية والأسباب الهيكلية التي أدت إلى ما أدت إليه في تونس، وركزت، بالمقابل، على رصد التشابهات بين الأوضاع التونسية والمغربية. إنّ ما وقع في تونس، بمعايير علم الاجتماع وعلم السياسة وسوسيولوجيا الثورات، كان تجسيدا صارخا لأزمة مشروعية سياسية لنظام حكم اقترن باسم الرئيس زين العابدين بن علي، ولهذا نفهم لماذا تستمر الاحتجاجات في تونس مطالبة بعض أعضاء الحكومة بالاستقالة من عضوية حزب التجمع الدستوري. فأعمال العنف الحضري التي تشكلت في تونس طيلة أسابيع لا يمكن تفسيرها بواقعة إحراق جسد من طرف مواطن عاطل، أو التضييق على باعة متجولين، أو التضييق على التواصل عبر الأنترنت... فالمعطيات السابقة ما هي إلاّ تداعيات لواقع نظام سياسي، اقترن باسم رئيس الجمهورية، وهو نظام فقد كل مقومات وأصناف المشروعية السياسية. إضافة إلى هذا المعطى الأساسي، تكاثفت معطيات أخرى عجلت بسقوط الرئيس، وليس بالضرورة سقوط النظام السياسي، وتلك المعطيات كانت لها علاقة بمسائل تدبير النخبة السياسية والاقتصادية، والأمن والدفاع. في تجارب الحكم وبمعايير سوسيولوجيا الثورات، الأنظمة السياسية لا تسقط بمجرد خروج الجمهور إلى الشارع، ولو بتواصل الاحتجاجات واستمرار أفعال العنف والتخريب في التشكل طيلة أيام وأسابيع. بل تسقط الأنظمة السياسية بسقوط مشروعياتها السياسية وزوال الأدوات الرئيسية للحفاظ عليها من نخبة وأمن ودفاع. بمعنى آخر، يمكن أن تستمر الأنظمة السياسية في الحياة والوجود مع تواصل العنف في الشارع، ما دامت منابع المشروعية السياسية لتلك الأنظمة مستمرة في التدفق، من جهة، وما دامت أدوات المحافظة عليها متحكم فيها ويتم تدبيرها بشكل يخدم المشروعيات السياسية نفسها، من جهة ثانية. أول شيء تحقق بعد " الانقلاب الأبيض " الذي باشره الرئيس بن علي سنة 1987 هو تقويض المشروعية الوطنية والتاريخية (مقاومة المستعمر) التي كان يستثمرها نظام الرئيس بورقيبة في الحفاظ على وجوده واستمراره. من هنا، كان على الرئيس بن علي أن يؤسس لمشروعيات جديدة للحفاظ على مقبوليته في نظر الشعب التونسي، وهكذا سيجعل من المشروع الديمقراطي والإنجازات في مجال الحريات والتنمية الاقتصادية أسس مشروعية النظام السياسي الجديد. لكن بعد ترؤس بن علي لتونس لشهور، تراجع الحكم الجديد عن الاستثمار في حقل الديمقراطية والحريات، من خلال تأسيس حزب وحيد تتوسع قاعدته على حساب الأحزاب والمنظمات السياسية والنقابية والجمعوية. فبدل أن يخلق النظام الجديد في تونس آنذاك مشروعية بديلة لمشروعية بورقيبة، جرد نفسه من المشروعية التاريخية، وقام، في ظرف شهور محدودة، بتعطيل المشروع الديمقراطي والأوراش الحقوقية بتونس، وأصبح، ابتداء من تلك اللحظة، مجردا من كل مشروعية مجمع عليها، اللهم مشروعية لدى بعض أطراف المجتمع الدولي باعتباره صمام أمان في وجه تنامي التواجد الحركي الإسلامي بين شرائح المجتمع. إنّ الخطأ القاتل الذي ارتكبه النظام السياسي في تونس أنه قوض مشروعية سياسية قائمة، ليجرد نفسه، فيما بعد، من كل المشروعيات السياسية التي يمكن الاستثمار فيها واستغلال جاذبيتها في نظر المجتمع. من الخطأ إذن تشبيه الأوضاع في تونس بمثيلاتها في الدول العربية، فتجارب الحكم في تلك الدول أبانت وما زالت تبين بأن الأنظمة السياسية العربية، بالرغم من تفاوت درجات الاحتقان داخل مجتمعاتها، استطاعت أن تنوع من أطباق مشروعياتها السياسية، فسعت إلى المحافظة على مشروعياتها التاريخية والتقليدية والوطنية من جهة، كما عملت على الاستثمار، وإن بدرجات مختلفة، في حقل مشروعية الإنجازات من جهة أخرى. أمّا المعطى الثاني الذي ميز تجربة الحكم في تونس، والذي لا نجد له شبيها مماثلا في باقي الدول العربية، فيتمثل في البدائل التي لجأ إليها نظام الرئيس بن علي من أجل الحفاظ على الحكم. فمن جهة، لم يستطع النظام التونسي احتواء نخب المعارضة التي تتمتع بمشروعية لدى الشعب التونسي، وفي ظل هذا الواقع تشكلت نخبة جديدة، تتمتع بنفوذ سياسي واقتصادي، تسوق للنظام وتجتهد في الاغتناء والاستثراء على حساب مشروعية النظام السياسي نفسه. من هنا، لن يصبح الشعب التونسي " كارها " فقط لاستمرار الرئيس، ولكن أيضا لنفوذ أقارب وأصهار الرئيس ومعارفهم الذين أصبح الشعب يتمثَّلُهم في صورة " مافيا " همها نهب خيرات الشعب الفقير والمستضعف.ومن أجل الحفاظ على بديل النخبة النافذة المساندة للحكم، ابتكر النظام التونسي خيارا فريدا وهو خيار الدولة البوليسية، وهو خيار نجزم بأنه لا يوجد إلا في ذلك البلد. فلكل 1000 مواطن تم تخصيص 15 شرطيا، ليصل تعداد الشرطيين في تونس إلى 150.000 شرطي، وهو عدد يفوق تعداد القوات المسلحة في العديد من الدول العربية. ومن هذا الخيار سينجم الخطأ الذي أقبر نظام الرئيس زين العابدين بن علي، حيث أصبحت الشرطة التونسية هي الجيش الفعلي، ما دامت مهمتها الأساسية هي الحفاظ على المؤسسات التونسية المتمثلة في النخبة النافذة، في حين تمّ تحييد الجيش (50.000 ألف)، فما كان على هذا الأخير إلاّ أن يقف موقفا محايدا عند احتقان الشارع التونسي بالرغم من صدور التعليمات له بالتدخل. نخلص مما سبق، أنّ فرضية تصدير النموذج التونسي في " الثورة " إلى الدول العربية لن يقوم لها قائم في ظل غياب المعطيات التي تم تسجيلها في أوضاع تونس، وبالخصوص تلك التي لها علاقة بأفول المشروعية السياسية للحكم، وسوء التدبير لبدائل المشروعية السياسية والمتمثلة في ثلاثية النخبة والأمن والدفاع.