ادريس هاني لماذا التّدين والنّفاق؟ إنّ اختيار الحكاية الحيوانية ليس جزافا هاهنا. فما من معاقر لها إلاّ وهو يدرك لها آمادا استراتيجية. وكما ألمح لافونتين وهو رائد الحكاية في العصر الحديث بأنّ لهذه الأخيرة قواما ينهض على جانبين : جسد وروح. فبينما يؤدّي الجسد دور الحكي تتولىّ الرّوح دور المعنى. هذا هو واقع اللغة عموما. لكن في الحكاية هناك تفويت للمباشرة إلى عالم الحيوان. ليست اللاّمباشرة هنا قضية مجاز لغوي فحسب، بل هي أيضا مجاز مادّي يعبر بالنصوص والشخوص من مجتمع الإنسان إلى مجتمع الحيوان. فالبعد التعويضي هنا متحقّق. أي يمكن محاكمة الرذيلة بمجاز ساخر إذا ما تعذّر تغييرها بالقوّة. وبتعبير لافونتين في حكاياته أنه سعى للسخرية من الرذيلة إذ لم يكن في مقدوره مواجهتها بذراعيّ هرقل.وفي مرّات كثيرة جاءت الحكاية الحيوانية لتبارز الإنسان. فهي تتحدّث حديثا افتراضيا لكنّه يحاكي واقع الإنسان، وأحيانا واقع الحيوان نفسه حين نستدخل مشكلة البيئة اليوم. فالحكاية الحيوانية متجدّدة متطورة وإن حافظت على صورتها الحيوانية. ولم يمنع لافونتين على الرّغم من نقله عن السّلف الكثير من حكاياته أن يمنح الحكاية الحيوانية قواما وموضوعات جديدة. فقد أخذ حوالي عشرين حكاية من التراث القديم ومنه الفارسي وضمّنها القسم الثّاني من حكاياته . إنّ استنطاق الحيوانات هو أسلوب تربوي لا يزال راهنيّا. ففي عصرنا نطقت الحيوانات بلغتنا ومفاهيمنا وأيديولوجياتنا وحماقاتنا. ليس من قبيل الاستغراب أن ينطق غراب جورج أورويل في" مزرعة الحيوانات" بلغة اشتراكية تتعلّق بالإنتاج وحقّ الحيوانات في امتلاك فائض القيمة. يقول الغراب الذي تأخّر عن الموعد فيما هو ظلّ نائما في حلم سيحكيه لرفاقه، محرّضا إيّاهم على قتل الإنسان والخلاص من عبوديته :" الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يستهلك دون أن ينتج. لا يعطي حليبا ولا يبيض بيضا وهو أضعف من أن يدفع المحراث وأطول من أن يصطاد أرنبا (...) ومع ذلك ها هو هذا الأخير المتسلّط على سائر الحيوانات".ثم يقول :" اليس ذلك يا رفاق أوضح كمياه الصخر؟ كل الشرور في حياتنا هي بسبب الإنسان : طاغيتنا" . فالحكاية الحيوانية هنا ليست ملهاة للإضحاك، ولا تراجيديا للأسى، هي حكاية تربوية جادّة مع شائبة من السّخرية. إنّ متعة القول هنا متوفّرة بقوّة الإمتاع التي يجود بها قلم الأديب. هكذا نظر البهائي للأدب كفنّ لا يتميّز عن سائر الفنون. فقلم الأديب يحرّك المشاعر ويداعب العقل مثلما يفعل الموسيقي تماما. فانظر تجده البهائي نفسه في الكشكول يورد مقارنة بين مزمارين : أحدهما مزمار المعنى وهو القلم، والآخر هو مزمار المغنى المعروف. فيقول على سبيل التشبيه :" من كلام بعض الأدباء : لو أنصف أهل العقول، لعلموا أنّ القلم مزمار المعاني كما أنّ أخاه في النّسب مزمار المغاني. فهذا يأتي ببدائع الحكم كما يأتي ذاك بغرائب النّغم. وكلاهما شيء واحد في الإطراب غير أنّ هذا يلعب بالسماع وهذا يولع بالألباب. وأقسم بالله ما سمعت شيئا من طيّب الأدب إلاّ جلب لبّي وأخذ بمجامع قلبي" . كان في العرف الإسلامي، من شأن فعل استنطاق الحيوانات أن يترك ردود فعل ونفور من الجمهور أو الفقهاء. لكن معاقرة بعض الفقهاء لهذا الفنّ صكّ عبور إلى عالمه. والشيخ البهائي هنا هو أديب الفقهاء وفقيه الأدباء. وما تبيين البهائي لمغزى حكايته في متن الكتاب إلاّ تأكيدا على مدى شرعيتها التي قد تدخل في باب وظيفة الحدّ الأدنى من تمثّل واجب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر. فإذا ما تعذّر تغيير المنكر بالقوّة فباللسان فإن تعذّر فبالقلب. وهنا يتمّ التغيير باللسان لكن بتقنية اللاّمباشرة والحكاية. لقد وجد أهل المشرق العربي، وبتأثير مباشر من الثّقافة الفارسية التي استدخلها ابن المقفّع، في الحكاية الحيوانية وسيطا مناسبا لتمرير الكلام غير المباح. ومثل هذا عزّ في بلاد المغرب الإسلامي لأسباب غير مستقرأة حتّى الآن لكن وجدت أن هذا الفنّ ينذر إن لم أزعم أنّه يغيب تماما من الممارسة الأدبية في المغرب الإسلامي. ولكن وجه من وجوه السّبب قوّة المحافظة في هذا الأدب والأخذ بالاحتياط في التّصوير الفنّي وهو ما أبعد أدبهم عن المجون والخمريات والغزل ورمى به في المديح والرثاء والبكاء على الأطلال ووصف الطبيعة. وفي الحكاية اهتدوا إلى فن إجراء الكلام غير المباح على لسان "الهدرازة" والصبيان ومن لم يكونوا على قدر المسؤولية ومن أهل الرّشد ؛ وهو ما يتطلّب دراسة مقارنة وافية. وليس اختيار مجتمع الحيوانات مجرّد مجاز ساخر، بل هو مجتمع إن أضيفت له خاصية الإنسان المفقودة في السّلوك الغالب على الإنسان الغافل النّطق نطق كما كان ينبغي أن ينطق الإنسان، مما يعني أنّ نعمة النطق عند الإنسان لا تؤدّي غرضها كما ينبغي بسبب اختيارات الإنسان اللاّعقلانية. تعود الحكاية رمزيا بالإنسان إلى أصل ما يميّزه عن الحيوان، ثم تخضع بواسطة الخيال إلى أنسنة المشهد الحيواني لتجعل منه فرجة تعكس حقيقة الإنسان وتناقضاته في واقعه. هنا يستعير الحيوان خاصية النطق من الإنسان ليؤدّي دور الملهاة. فالنّاطقية هي قوام العقل الذي به يتميّز الإنسان. فإذا ما نطق الحيوان كان عاقلا وجاء بحديث العقلاء. فلا فكاك بين النطق والعقل.الحكاية الحيوانية كمشترك إنساني لم يكن فعل استنطاق الحيوان بدعا في الممارسة الأدبية العربية ولا في سائر الثّقافات. فالحكاية الحيوانية قديمة في التراث الإنساني عرفتها مختلف الحضارات. لذا اختلفوا في هويّة مبتكرها الأول؛ هل هو إيزوب في القرن 6 قبل الميلاد أو وزير سليمان أو لقمان الحكيم.وثمة من يعود بها إلى ما قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد حيث تم اكتشاف حكاية السبع والفأر مسطورة على ورق البردي في مصر.لكن ثمّة من لم يعر أهمّية لهذا الأمر، حيث تعتبر الحكاية الحيوانية فن طبيعي من بين سائر الفنون الأدبية، لا أهمية لنسبته لشخص أو أمّة. فهو أقرب إلى الطبيعة الفطرية للإنسان المنجذبة كما عند الطفل بحديث الحيوان، بعد أن أدركنا أنّ البشرية مرّت من مرحلة شبيهة بطفولة الإنسان؛ " يغريه تصور الحيوان ينطق كما ينطق الإنسان/ ويفكّر مثلما يفكّر" . لقد كان ابن المقفع هو أوّل من أدخل هذا الفن إلى الثقافة العربية. وسواء أكان هو من وضع كتاب كليلة ودمنة أو أنّه نقله إلى العربية وكان كلامه لا يبرح مقدمة الكتاب كما أشار ابن خلّكان في الوفيات، فإن لا خلاف على أنّه هو من كان له فضل إدخال هذا الفن إلى الثّقافة العربية بصورته الكاملة وإن لم يكن هو أوّل من أنطق الحيوان. وقريب من الصّواب ما أضافه عبد اللطيف حمزة في اشتغاله على ابن المقفّع، بأنّه يحتمل أيضا أن يكون هذا الأخير قد حفظ من تلك الحكايات التي راجت في الهند ومن ثمة في فارس، الكثير، ثم قام فجمع هذا الشّتات وألّف كتابا خاصّا حول هذه القصص . ومرّة أخرى أحسن الباحث نفسه لمّا هوّن من أهمّية ما رامه بونتي حينما استدلّ على الأصل الهندي لحكايات ابن المقفع الحيوانية، بناء على النظرية البوذية الهندية في تناسخ الأرواح. وذلك بإيراد أمثلة نقيضة من القرآن نفسه . وقد شهدت الثقافة العربية منذئذ اهتماما كبيرا بهذا الفنّ. وكان لإخوان الصفا أيضا نصيب من استنطاق الحيوان في رسائلهم للأغراض التربوية والإصلاحية نفسها. سيكون ذلك مثيرا أكثر للانتباه إن سلّمنا بما ذهب إليه جولدزهير من أنّ إسم إخوان الصّفا هو نفسه مقتبسا من كتاب كليلة ودمنة في مفتتح باب الحمامة المطوّقة. بل ثمّة من ذهب أبعد من ذلك، ليتحدّث عن وجود الحكاية الحيوانية عند العرب قبل ورود ابن المقفّع. ودليلهم على ذلك ما راج من حكايات وأمثال في الثّقافة العربية، نظيرة حكاية "أكلت يوم أكل الثّور الأبيض". بينما ذهب آخرون أبعد من ذلك كثيرا، حينما تحدّثوا عن أنّ العرب الآراميين قد تعرّفوا إلى كليلة ودمنة المنقول إلى السريانية سنة(570م) ثم حفظته الذاكرة الشعبية حتى صدر الإسلام . ويمكن أن نضيف إلى ذلك قطعا للشّك، أنّ فعل استنطاق الحيوان لم يكن نابعا من عقيدة إحيائية قديمة مختصة بثقافات الشّرق الأقصى، بل نجد لذلك نظائر تأسيسية في القرآن الكريم. فلقد بدا واضحا مدى تناسب هذا الأسلوب التربوي مع طريقة القرآن الكريم، الذي اعتمد القصّ والحكاية أسلوبا أثيرا في التّربية والتّعلّم. فلقد جاء القرآن زاخرا بكلّ صنوف الكنايات والإشارات، وقد جاءت تعاليمه في قالب فنّي غنيّ بالمجازات واعتماد القصص والاعتبار. مع أنّ القرآن كرّم الإنسان على سائر المخلوقات التي سلّطه عليها إلاّ أنّه تفضيل لا يخلو من مسؤولية. فلقد نفى بهذا أي اعتقاد على سبيل مبدأ المشاركة، ولكنّه أشار إلى أنّه :( وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم) . هكذا وقبل أن يجري الكلام على لسان الحيوان في كليلة ودمنة، نطق النمل والهدهد في القرآن .وتضعنا مملكة النبيّ العظيم سليمان(ع) أمام أقاصيص يستوي فيها الإنسان والحيوان من حيث المسؤولية والمنطق. فلقد تحدّث الهدهد كإنسان وليس كحيوان. فالهدهد ينقل الأخبار ويتملّكه الفضول لمعرفة أسرار الملك، ويميّز بين محاسن السّلطة وقبائح النّظم. ولقد تعجّب كإنسان من أن تحكم المرأة، ويكون حكمها قائما قويّا. وكانت من أعظم معجزات النّبيّ سليمان أن ألهم منطق الطير والحيوان وتسلّطه على الإنسان والجان والحيوان والجماد. قال تعالى : (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِي لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنْ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنْ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ * أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ * اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهِ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ) . إن مملكة سليمان تعطي صورة واضحة عن حقيقة منطق الحيوانات. وقد تعددت الأمثال عن الحيوان في القرآن إلى حدّ تقوّل بعض المعارضين للتعاليم، فما كان إلاّ أن أكّد القرآن على قيمة الأمثال الحيوانية باحتجاج يؤكّد على أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب، حينما قال تعالى : (إن اللهَ لَا يَسْتَحى أن يَضَربَ مَثلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوقَهَا فأما الَّذيَنَ امَنُوا فَيَعْلمُونَ اَنَّهُ اْلَحُق مِنْ رَبّهِم وأما الَّذيَن كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أراد اللهُ بِهذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثيراً وَيَهدِى بِه كَثيراً وَمَا يُضِلُّ ِبِه إلا الفَاسِقيَن) . ومع ذلك نلاحظ أنّ رسالة التّدين والنفاق للشيخ البهائي تنتمي رسميّا وبامتياز إلى الأدب الفارسي. وهي من هذا المنطق تبعث الرّغبة عند الباحث إلى الالتفات إلى مجمل ما ألّفه العرب بالفارسية بعد أن أدركنا ما ألّفه أهل فارس بالعربية. فهي وإن كان مؤلّفها هو الشيخ البهائي، فقد كان هذا الأخير مزدوج الثّقافة. وكان أن كتبها في بلاد فارس وليس في البلاد العربية. كما ألّفها صاحبها باللغة الفارسية. فيما كانت كلّ رموزها الثّقافية فارسية بامتياز. فالفأر أو القط في حوارهما يستحضران تباعا أمثلة تنتمي إلى التاريخ والجغرافيا الفارسية، كما لم يفتأ أحدهما تلو الآخر يحيل إلى شعراء فارس العظام من أمثال حافظ وسعدي وفردوسي. حيث نجد بين الفينة والأخرى أمثلة على ذلك كما تظهر العبارات التّالية : قال الفأر : جاء في "كلستان" الشيخ سعدي شعر يقول : سمعت أن الكريم يوم الحشر يشفع للأشقياء بحسنة الأتقياء. قال الفأر : قرأت في كتاب"نكارستان" هذه الحكاية : " إنّ عيّار ظالما سيئ السيرة إلخ . قال الفأر : أيها القط (...) كنت منذ سنوات خلت مجاورا في مقام " الشيخ سعدي" عليه الرحمة . قال الفأر : أيها الملك أنت أطلعتني على أمور كثيرة ، أما" خواجة حافظ" عليه الرحمة، فقد قال في ديوانه كلاما جميلا . قال الفأر : أنت لا تذكر لي المعنى الحقيقي، وإنما في غزل" حافظ" كلام حول التوبة واللاّتوبة . وقال الفأر :(...) وقد قال الشيخ سعدي في كلستان" : القط أسد حين يقبض على الفأر ولكنه فأر في حضرة الأسد . وقد قرأت في الشاهنامة . ثم قال القط : أيها الفأر ، أقرأت ديوان خواجة حافظ قال الفأر : بلى كلما أردت الخروج من المنزل آخذ فألا من ديوان حافظ، وأقرأ قليلا من مقام(الراست) وال(بنجكاه) وبعدها أخرج ! ؟ هذه وكثير منها لم نذكره لا تمثل شاهدا على أن الحكاية تستلهم من تراث فارس فحسب، بل هي تعكس عاداتهم وطريقة احتفائهم بتلك الرموز. ولفارس تراث في الأدب لا يخفى على الأدباء العرب. ويورد الجاحظ من حديث أهل التسوية في البيان والتبيين ما يؤكّد على براعة أهل فارس في القول والبلاغة. فيذكر على لسانهم :" وقد علمنا أنّ أخطب النّاس الفرس وأخطب الفرس أهل فارس الخ" ثم يقول : "وقالوا : ومن أحبّ أن يبلغ في صناعة البلاغة ويعرف الغريب ويتبحّر في اللغة، فليقرأ كتاب كاروند. ومن احتاج إلى العقل والأدب، والعلم بالمراتب والعبر والمثلات والألفاظ الكريمة والمعاني الشريفة ، فلينظر في سير الملوك. فهذه الفرس ورسائلها وخطبها وألفاظها ومعانيها(...) فمن قرأ هذه الكتب وعرف غور تلك العقول وغرائب تلك الحكم، عرف أين البيان والبلاغة وأين تكاملت تلك الصناعة" . يكون الشيخ البهائي من خلال حكاية "التدين والنفاق بلسان القط والفأر" قد أحيى رسوم فارس في الآداب، ونسج على منوال ابن المقفّع في كليلة ودمنة، لكنّه منح حكايته ملمحا يقرّبها إلى الواقع أكثر من الخيال : يكاد المطّلع عليها يدرك أن القط والفأر في حكاية البهائي ليسا سوى قناعين رفيعين جدّا تكاد تظهر وتنفضح من ورائهما صورة الرذيلة والنفاق بطعمهما البشريين.