ما كان في نيتي الخوض في هذا الموضوع الغامض والشائك مثله مثل مواضيع أخرى عَلاَها ضباب الشكوك، ممّا فتح البابَ على مصراعيه للخيال الروائي، ودغدغ غرائز كتّاب القصص البوليسية، وألهم صناع الأفلام السينمائية، ما دامت الحقائق التاريخية قد غابت، فاتحة المجال لأصحاب التهم والتكهنات التي لا ترتكز على أساس، ولا تستند إلى وقائع أو حجج دامغة.. فالذي استثار في نفسي غريزة الكتابة في هذا الموضوع، هو حدثان اثنان عاينتُهما على شاشة قناة عُرفت بعدائها المستحكَم ضد بلادنا، وأعني بها قناة "غوبلز" التي تُعْرف باسم "فرانس 24".. فالمشهد الأول على الشاشة الغشّاشة تمثل في استضافتها لعضو بارز في الاتحاد الاشتراكي، إلى جانب كونه برلمانيا ووزيرا سابقا، حيث بدأت القناة تطرح عليه أسئلة ملغومة بمناسبة مرور 50 عاما على اختفاء المناضل اليساري البارز "المهدي بنبركة"؛ ففطن الضيف لسوء النوايا، فانفضّ من حولهم، في حركة تستحقّ الثناء والتقدير.. وأما الحدث الثاني، فهو اتصال القناة يوم 06 نونبر 2015 في الساعة الثانية بعد الزوال، بوزيرة منتدبة بمناسبة عيد المسيرة الخضراء المظفرة، وفوق صورة الوزيرة، وضعت القناة خريطةً للمغرب بدون صحرائه المسترجعة، دون أن تحتج الوزيرة أو تقطع الهاتف، وقد وجّهت للمغرب تهما مبيّتة، ولم تكن الوزيرة في المستوى المطلوب.. والظاهر أن بعض الناس يعتبرون الظهور على مثل هذه الشاشات تشريفا فيما هو إهانة تستحق الشجب والإدانة، خاصة وظهور هذه الوزيرة في هذه القناة المعادية كان بمناسبة عيد المسيرة الخضراء الخالدة.. فهؤلاء القوم مصابون بالإدمان على مثل هذه القنوات المشبوهة، ونحن نرجو لهم الشفاء العاجل... وبالعودة إلى موضوع اختفاء "المهدي بنبركة" الذي تريد القناة إلصاقه ظلما وظنّا وعدوانا ببلادنا دون دليل يُذكَر، فإنني أقول لها إنه كان أولى بها وأجدر أن تبحث في من قتل الرئيس الجزائري "محمد بوضياف" في "عنّابة"، وهو يلقي خطابا يوم 29 يونيو 1992، بدلا من البحث في من اختطف "المهدي بنبركة" يوم 01 نونبر 1965 في قلب باريس؛ ثم تكيل التهم عبر إيماءات تستبطن عداءً غرائزيا لبلادنا، وكأن القناة أكثر غيرة وأشد حزنا على "المهدي" من المغاربة الذين ما زالوا يحتفون بذكراه كل سنة.. فهذا المناضل الكبير كان شخصية عالمية في فترة فتنة عالمية كبرى بين الرأسمالية والشيوعية، بين الإمبريالية والمنظمات اليسارية، وكانت له علاقات بزعامات ذائعة الصيت.. لقد عمل "المهدي" و"غيفارا" من أجل "منظمة القارات الثلاث" وكان لابد من منع هذا المؤتمر، ولكنه عُقد رغم اختفاء "المهدي"؛ ثم قُتل "غيفارا" يوم 08 نونبر 1967، بعدما أُلقي القبض عليه في "بوليڤيا"؛ لكن من أصدر الأمر بإعدامه وهو يعتبر سجين حرب إذ أُلقي القبضُ عليه أثناء معركة؟ فهل "السي أي ئي" هي التي أصدرت الأمر، أم "رودريغز" المعارض الكوبي، أم "غيفارا" أطلق النار على نفسه بعدما استعار بندقية من جندي كان يحرصه، أم أتى الأمر من الديكتاتور "بارِّيَنْطو" رئيس بوليڤيا آنذاك؟ الجواب: لا أحد يعرف، وقد تناسلت الروايات وتنوعت.. من سمم "ستالين"؟ أهو ذاك الكلب المسعور "بِرِيَّا" الذي كان يترأّس مختبرا لتركيب السُّموم، أم "مولوطوڤ" وزير الخارجية الذي نبذه "ستالين" وأرسل زوجتَه "باولينا" إلى معسكر الاعتقال، أم الأطباء اليهود الذين كانوا سيعانون في اليوم الثاني من عملية "مؤامرة الطبيب" التي أمر بها "ستالين"، أم كان ضحية صراع خفي من أجل السلطة في الكريملين؟ لا أحد يعرف.. من قتل "كنيدي" في "دلاس"؟ أهو الشاب "أوسْوولد" صديق "كوبا"، أم هو أصدقاء "روبي" الذي أطلق النار على القاتل المفترض وهو بيد الشرطة؛ أم هي "المافيا" التي ساعدت "كيندي" في الانتخابات، ثم أطلق عليها أخاه "روبير كنيدي" الذي عُيِّن مدعيا عاما، أم منظمة صهيونية لم تكن راضية على سياسته، أم هو ضحية حرب باردة كثرت في أيامها الاغتيالات، والاختطافات في الستينيات؟ لا أحد يعرف على وجه الدقة، بل هناك من اتهم "السي أي ئي" بلا دليل يُذكَر.. من وراء اختفاء البريطاني "تيري وايت" زعيم الكنيسة الأنجليكانية في لبنان سنة 1985، وإلى يومنا هذا لم يُعْثر له على أثر؟ من اغتال "كورييل" صديق "بنبركة" سنة 1978 في باريس، وهو صاحب "شبكة كورييل"؟ ثم من ومن ومن؟ لا أحد يدري... فمثل هذه الاغتيالات والاختطافات الغامضة، تمثل تهما جاهزة يوظفها الخصوم، ويستثمرها الذين في قلوبهم مرض، كما تصلح ورقةً في ميدان السياسة، وهو ميدان الأكاذيب والدسائس والخداع بامتياز.. هذه حقيقة يثبتها التاريخ على مدى العصور، وهي من أسباب الفتن، والتمزق، والعداء المزمن؛ ولعلّ ما يعانيه العالم الإسلامي اليوم، يجد جذوره الأولى في مثل هذه الاغتيالات، وهي التي أورثتنا كل هذه الفتن، وفرقتنا إلى طوائف، ومذاهب، وملل ونحل، أي والله.. والمصيبة هو أنّ كل واحد يستند إلى رواية تناسب هواه، أو تخدم مصلحته، أو تبرر ساديته تجاه غيره، يعتمدها في القتل واستباحة دماء وأعراض الغير، كيف ذلك؟ نسوق كمثال قضية اغتيال "سيدنا عثمان" رضي الله عنه.. ففي هذه المسألة تختلف الروايات، بدءًا من [تاريخ الطبري؛ مرورا بالطبقات الكبرى لابن سعد؛ وانتهاءً بالبداية والنهاية لابن كثير؛ أو العواصم من القواصم لابن العربي] أضِفْ إلى كل ذلك روايات الشيعة وهلوسات المستشرقين، إلى درجة أن هناك حشدا من هذه الروايات من شأنه أن يسبب الدوار، ويحدث تشويشا في الأذهان، وضبابية في الأفكار، ثم الحقيقة يعلمها الله وحده، لذا وجب الحذر من هذا الرّكام المتضارب من الروايات.. فمن حرّض على قتل الخليفة الثالث؟ فروايات كاذبة تقول إن عائشة لمّا اقتطع "عثمان" من راتبها من بيت المال، قالت: "اُقْتلوا نَعْثلا فقد كفر".. وحاشا ذلك؛ وأخرى تقول إنها رضي الله عنها قالت بعد مقتل عثمان: "لقد قُتل الرجل مظلوما".. لكن من نفّذ عملية الاغتيال؛ المصريون أم العراقيون؟ من دخل بيت عثمان؟ تقول بعض الروايات: "كنانة بن بشر؛ عمرو بن الحمق الخزاعي؛ سودان بن حمران؛ عبد الرحمان بن عُديس البلوي؛ محمد بن أبي بكر الصديق"؛ ومن هؤلاء من بايع "بيعة الرضوان" وهناك روايات تنزّه هؤلاء.. من أرسل "ابن ملجم" لاغتيال "عليّ" كرم الله وجهه؟ من سمم "سيدنا الحسن" رضي الله عنه؟ من خذل "سيدنا الحسين" رضي الله عنه في كربلاء؟ من شجّ رأسه "ابن زياد، أم عمر بن سعد بن أبي وقاص"؟ وبخصوص "عثمان" رضي الله عنه فحتى "معاوية" نفسه لم يعرف من قتله.. وهناك رواية تقول إن "عليا" تقاعس عن حماية "عثمان" حيث قال: "لو أمرتُ به لكنتُ قاتلا، أو نهيتُ عنه لكنتُ ناصرا".. وهكذا كما نرى، تنوعت الروايات، وما زال المسلمون إلى الآن يتبادلون التهم، ويحرّم بعضهم بعضا، وفي ذلك تفرقوا شيعا ومن الروايات كل يقتني حسب حاجته، وهذا بالضبط ما يقوم به أعداء بلدنا في ما يتعلق باختطاف "المهدي"، وهذا ما تقوم به قناة "فرانس 24" فتبّا لها من قناة!